قرار مشؤوم وفلسطين تنتفض
علي جرادات
قرر الكونجرس الأمريكي، عام 1995، وجوب (الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس)؛ لكنه منح الرؤساء صلاحية تأجيل نقل السفارة «لحماية مصالح الأمن القومي». وهو ما فعله الرؤساء المتعاقبون من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. أما الرئيس ترامب فاختار أن يتحدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين جميعاً؛ بل العالم بأسره، وقرر الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة ل«إسرائيل»، ومباشرة الاستعدادات لنقل السفارة إليها.
إن قرار الرئيس الأمريكي هو مجرد «رأس جبل جليد» «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، وتحقيق كل أهداف «إسرائيل» الصهيونية التي عجزت جميع المحاولات «الغربية» الاستعمارية، وما أكثرها، عن إجبار الشعب الفلسطيني على التسليم بها أو الاستسلام لها، منذ نشوء الصراع العربي- اليهودي قبل 100 عام. ففي الذكرى السنوية الثلاثين لـ«انتفاضة الحجارة»، ها هو الشعب الفلسطيني يستلهم دروس وخبرة وأساليب وأدوات تلك الانتفاضة، ويطلق انتفاضة جديدة في ظروف سياسية وميدانية مختلفة، لا تسمح باستنساخ أي من الانتفاضات السابقة.
بهذا القرار الاستعماري الجديد وهب الرئيس الأمريكي، (كما «بلفور» البريطاني)، ما لا يملك لمن لا يستحق، ناسياً أو متناسياً أن القدس، وفلسطين كلها، ليست عقاراً يباع ويُشترى؛ بل هي وطن لشعب مكافح عنيد لم يستسلم لنتائج «وعد بلفور» أو قرار تقسيم فلسطين أو إنشاء «إسرائيل» بعملية تطهير عرقي بشعة عام 48 أو احتلال ما تبقى من فلسطين بعدوان مبيت عام 67. لقد نسي الرئيس الأمريكي أو تناسى أن أي إجراء أو قرار سياسي، مهما بلغت قوة صاحبه، لا يقوى على شطب هوية القدس، أو تزوير تاريخها، أو إلغاء شعبها، أو حسم مصيرها، أو إنهاء الصراع عليها، بوصفها عاصمة دولة فلسطين وقلبها، بكل ما لها من مكانة وطنية فلسطينية وقومية عربية وقداسة دينية إسلامية ومسيحية عالمية.
بهذا الرار الجائر عاد الصراع إلى مربعه الأول، واشتعل فتيل تفجير المنطقة، وأُغلقت، أمام الفلسطينيين، خصوصاً، والعرب، عموماً، أبواب مرحلة معطوبة استنفدت نفسها، وشُحنت بطاريات محركات مرحلة جديدة، عنوانها النهوض الوطني الفلسطيني، واستعادة خيار الوحدة السياسية والمقاومة الشعبية، بأشكالها. فالمغزى السياسي لقرار الرئيس الأمريكي هو انكشاف تطابق الموقف الأمريكي مع موقف أشد حكومات الاحتلال تطرفاً وعنجهية، لا بشأن قضية القدس، فحسب؛ بل بشأن جميع «قضايا الوضع النهائي» في اتفاق أوسلو، أي بقضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات والدولة والحدود والمياه. وهي القضايا التي تشكل جوهر الصراع، وكان يُفترض أن ينتهي التفاوض حولها، والتوصل إلى اتفاق بشأنها، بين منظمة التحرير الفلسطينية و«إسرائيل»، في مايو/أيار 1999.
لا عجب. فقرار الرئيس الأميركي هو ترسيم، وتتويج، وذروة ل50 عاماً من الدعم الأمريكي المفتوح والشامل لـ«إسرائيل» وحماية قراراتها لسحب ما نفذته في «مناطق 48» على «مناطق 67»؛ حيث ضمت القدس، ووسعت حدودها من 3% إلى 17% من مساحة الضفة، وأعلنتها «عاصمة أبدية» للاحتلال، وشرعت في مصادرة واستيطان وتهويد وتفريغ وتمزيق أوصال أراضي الضفة وغزة فور احتلالها إلى جانب الأراضي العربية الأخرى في عدوان عام 67.
لقد أنهى قرار الرئيس الأمريكي مرحلة رعاية واشنطن لمفاوضات «مدريد أوسلو» المدمرة، وللدقة مرحلة الدينامية الاختزالية التفكيكية لفلسطين، الشعب والوطن والحقوق.
ali-jaradat@hotmail.com