قضايا ودراسات

قطر… الإثارة والإرجاف

محمد خليفة

المتأمل لمواقف قطر، منذ أمد بعيد، يدرك جيداً أنها اتخذت لنفسها سياسة مستقلة عن دول الجوار، فهي تجيد السباحة عكس التيار، مخالفة بذلك الإجماع التاريخي والمكاني والزماني للإخوة الأشقاء، حتى في أحلك الأوقات نراها تعزف لحناً نشازاً بعيداً عن الإجماع الخليجي، ما يؤثر سلباً ليس عليها وحدها؛ وإنما على اللُّحمة الوطنية لدول مجلس التعاون الخليجي. كما وضعت نفسها موضع السلب الكامل لكل ما يمثله حق الجوار والإرث والنسيج المشترك وصلة الرحم، لتصبح مجرد نقيض على صعيد الرؤى والمواقف السياسية.
هذه الاستراتيجية السلبية تستند إلى الإدراك النقيض والتي لا يتوفر لها الشمول الاجتماعي والإيديولوجيات السياسية، أو إدراك غير مكترث بالمشترك وبالموروث الثقافي الخليجي، عندما يفتقد الوسائل والآليات، ويتقوقع داخل سراديب المكان، ما يعتبر تجسيداً للفتنة، عندما تواجه الذات الثقافية المشبعة بالثأر دون مراعاة علاقة الجوار والتاريخ والتراث كما يقول الفيلسوف الألماني الوجودي هايديجر إن «التراث لا يوجد وجوداً تاريخياً، وهو ليس محفوظاً بين دفات الكتب، إنه موشوم على جسم الأمة، عالق بآذانها، منقوش على جدرانها، حالّ في لغتها، مكبوت في لا وعيها».
إنه يتعلق بثوابتها الفلسفية والثقافية والاجتماعية، ولكن عندما نجد من يحاول ممارسة الزعامة بمنطق فرض العضلات، متمترساً بقيم لها بريقها مثل: السيادة، وحرية الرأي، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة الفتنة، دون مراعاة حقوق الأخوة والجوار، فيثير مشاعر البغضاء والأحقاد، إضافة إلى ما يسيء إلى بعض دول المحيط العربي، والتي تمثل عمقاً استراتيجياً لدول مجلس التعاون الخليجي، من أجل خلق صراعات طائفية وسياسية واجتماعية داخل بنيتها المورفولوجية، منطق استنتاجي يندرج بالأفكار والطروحات وبالمشاهد دون تمييز ما بين العام والخاص، تحت ذريعة حرية الإعلام التي تمارسها المؤسسات الإعلامية القطرية، التي تنهج سياسة التربص والتوثب، وتقوم على الانقضاض والتشويه، والشعارات الثورية الجوفاء التي تغذي النعرات الانفصالية عن جسد الأمة، غير مبالية بالنتائج الكارثية التي أصابت جسد الأمة، في العراق وسوريا ومصر وليبيا، عبر تبنيها شخصيات وتيارات فكرية وسياسية ودينية تمثل خنجراً مسموماً في جسد الأمة.
هذه هي استراتيجية الإعلام القطري، الذي يزعم الريادة والاحترافية، غير مبالٍ بالروابط الخليجية ووشائج القربى، ومواثيق الإعلام العربي، بل أبسط قواعد المهنية؛ التي تستلزم عدم التدخل في شؤون الجوار أو المساس بثوابته، أو لحمته الداخلية.
إن الأشقاء المسؤولين في قطر، الذين يقودون مؤسساتها الإعلامية، ومن يخططون لسياستها الخارجية يتلاعبون بحاضر الأمة ومستقبلها معاً، وتكفي نظرة فاحصة لواقع الأمة كي ندرك فدح الكارثة التي أوقعنا فيها الإعلام السائب، الذي لا يراعي المهنية، ولا الثوابت الوطنية للأمة، ولا يراعي حقوق الجوار، ولا ينطلي على أحد، مهما كانت درجة غفلته، أن السياسة الإعلامية تعمل بمعزل عن السياسة العامة للدولة، أو لا تعبر بالضرورة عن توجهها، فكلاهما كوجهي العملة الواحدة، فالإعلام هو لسان السياسة، وهو المعبر والكاشف عن سياسة الدول واستراتيجيتها وتوجهاتها تجاه كافة القضايا المختلفة.
إن القيادة لا تعني أبداً المغامرة ولا تمنح صك المقامرة بمصير الأمة ومستقبلها إلى الفوضى والتفكيك، أو الانفلات من قبضة المنطق وقيود العقل.
فالعالم العربي تكفيه النكبات التي عاشها في تاريخه الحديث؛ من كارثة نكبة فلسطين وحرب الأيام الستة عام 1967، التي أسفرت عن ابتلاع الضفة الغربية وضياع القدس، ونكبة الحرب العراقية – الإيرانية التي قوضت أركان العالم العربي والإسلامي حاضراً ومصيراً، ونكبة احتلال العراق للكويت؛ والتي كانت بمثابة أعنف إعصار عالمي عصف بالكويت، والعالم العربي من محيطه إلى خليجه، وضرب جسد العروبة بالرجفة والهلاك، ومأساة سوريا والحرب الأهلية، هذه الحرب العبثية بسبب فقدانها لكل منطق من ضرورة وهدف، وما تعانيه ليبيا من جراحات ونكبات، ونكبة ظهور تنظيم «داعش» المتطرف، الذي أثخن عنفوان الأمة العربية بالجراح الراعفة، وأن السبب في كل ذلك لا يعود فقط إلى افتقار هذا التنظيم إلى روح المسؤولية؛ بل إلى مرض الهلوسة التصغيرية في قتل الآخر، وفي هلوسة جنونية تنكر الواقع المحسوس، وتفرض على الآخرين أن يعيشوا نوعاً من أوهام تجعلهم يتعالون على الواقع، ويستكبرون على الحق والحقيقة. وبذلك يفقدون القدرة على التمييز بين الممكن والمستحيل، فيندفعون إلى تحدي طبيعة الأشياء ومناطحتها، وإلى ضرب من الانحرافات عن المعطيات الحسية، حتى تسببوا في تدمير العراق وسوريا، وجعلوا الأمة تحيا مزيجاً من صراع المبادئ، وتمزق الذات، ومعاناة الضمير، وجفاف العاطفة، وانتكاس القيم. وبناء عليه لا يجوز أن تجر هذه الأحداث ومواقف قطر إلى نكبات ونكسات الأمة العربية إلى الضياع والارتداد السلبي.
إن العودة إلى طريق الحق تسهم في رأب الصدع، ولمِّ الشمل، ووحدة الصف أمام المحن العاتية التي تعصف بالأمة العربية عامة، وبدول مجلس التعاون الخليجي خاصة. ويا ليت القيادة القطرية تقرأ الماضي قراءة جيدة، حتى تدرك ما هي مقبلة عليه إزاء ما تتخذه من قرارات قد تعصف بكيان دول المجلس من الداخل.
med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى