قمة المصالح الشخصية
تحلى ترامب وبوتين بأقصى درجات الواقعية السياسية وحوّلا القمة إلى استعراض سياسي لكسب نقاط في معركة الزعامة الداخلية
بلا نتائج تذكر ودون حلول لمشاكل العالم انفضت القمة الأولى بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين. لم يسعَ أحدهما أو كلاهما لتحقيق إنجاز خلال اللقاء الذي استضافته مدينة هامبورج الألمانية على هامش قمة العشرين. حضر الرئيسان وفي ذهن كل منهما وضعه الداخلي ومشاكله المحلية. واعتبر كلٌّ منهما القمة مجرد فرصة جيدة يمكن توظيفها إعلامياً لدعم موقفه الداخلي.
بالنسبة لبوتين فقد حقق اللقاء هدفاً مهماً له، وهو العودة إلى المسرح العالمي، وكسر العزلة التي فرضتها عليه الإدارة الأمريكية السابقة بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية. وقد اعتبر الباحث «ماثيو روجانسكي» في مركز ويلسون للدراسات السياسية في واشنطن أن بوتين دق بالفعل المسمار الأخير في نعش السياسة الأمريكية لعزل بلاده. وأنه بعد أن التقى مع ترامب وقادة دول العشرين لا يمكن القول إنه مازال معزولاً.
وفرت القمة لبوتين أيضاً فرصة ذهبية لتحسين موقفه أمام قاعدته الجماهيرية. وقد لا يشعر بأدنى قلق إزاء فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار المقبل، ومع ذلك فمن المهم بالنسبة له أن يرسخ صورته كقائد صلب يدافع عن حقوق بلاده ومصالحها. حرص بوتين منذ توليه السلطة على خلق هذه الصورة الذهنية لدى مواطنيه. وخاطب دائماً عواطفهم الوطنية، وأشعل عن عمد نعرة الكرامة القومية التي يتصدى هو للذود عنها.
لذلك لم يكن غريباً أن تعتبر وسائل الإعلام المؤيدة له أن اجتماعه لمدة ساعتين مع ترامب دليل على قوته ومكانته المميزة؛ لأنه ما من رئيس آخر استقطع كل هذا الوقت من ترامب. بل تمادت منابر إعلامية أخرى في تمجيد أداء بوتين خلال القمة التي لم تسفر عن شيء، واعتبرت أن «الرئيس الجديد» ترامب جلس كالتلميذ أمام الرئيس الروسي المخضرم. حتى مبادرة ترامب بمصافحة رئيسهم اعتبروها دليلاً على قوته؛ لأن نظيره الأمريكي هو من مد يده أولاً!.
وقد لخصت «واشنطن بوست» رؤية بوتين للقمة بقولها، إنه اعتبر أن 99% من أهميتها بالنسبة له تكمن في فائدتها المحلية. أما باقي مشاكل العالم فلا تستحق من وجهة نظره سوى الفتات المتبقي. وهكذا حضرت المصلحة الشخصية وغابت قضايا العالم. حتى الخلافات على صعيد العلاقات الثنائية مع واشنطن لم تكن مهمة في هذا التوقيت أيضاً؛ لأن بوسع بوتين تسويقها لدى المواطن الروسي، بوصفها جزءاً من معركة الكرامة الوطنية التي يخوضها للتصدي للإمبريالية الأمريكية. ومرة أخرى يرسخ هذا صورته كبطل قومي جسور.
على الجانب الآخر استفاد ترامب شخصياً أيضاً من اللقاء. وبدوره لم يدخر وسعاً في توظيفه محلياً، لاسيما مع استمرار التحقيقات حول التدخل الروسي المحتمل في الانتخابات الرئاسية التي جاءت به إلى سدة الحكم. حرص ترامب على الإعلان أنه تشدد مع بوتين في إثارة هذا المسألة، وأن الأخير حاول جاهداً تبرئة نفسه من التهمة التي حاصره بها ترامب. وبذلك لا يكون مقصراً في القيام بدوره، والتصدي لأي عبث روسي بقوانين بلاده.
حقق اللقاء لترامب مكسباً آخر، هو تنفيذ وعده بتحسين العلاقات مع روسيا، وإطلاق حوار معها لخدمة السلام العالمي. ويمكنه الادعاء بأن اتفاق الهدنة في جنوب غرب سوريا هو أول ثمار هذه السياسة. بالطبع لا يمثل الاتفاق إنجازاً كبيراً؛ لأنه يتعلق بجزء صغير في سوريا، كما أن فرص صموده ليست مضمونه. ولكن بوسع ترامب المجادلة بأن تلك مجرد بداية.
قدم ترامب نفسه لمواطنيه أيضاً باعتباره مفاوضاً قوياً يواجه خصماً عنيداً، ويبحث معه مسائل دولية معقدة، بغض النظر عن الإخفاق في التوصل إلى أي اتفاق بشأنها.
وهكذا التقى الرئيسان، وهما يعرفان مقدماً أنهما لن يتوصلا إلى شيء. تحلى كلاهما بأقصى درجات الواقعية السياسية، وحولا القمة إلى استعراض سياسي؛ لكسب نقاط في معركة الزعامة الداخلية. لم يكن أمامهما سوى القيام بذلك على ضوء إدراكهما أن الأوضاع الداخلية لن تسمح لهما باتخاذ قرارات مهمة، أو تقديم تنازلات جوهرية في هذا التوقيت.
عاصم عبد الخالق
assemka15@gmail.com