مقالات عامة

قوة يناير الكامنة

عبد الله السناوي

ما خلفته ثورة «يناير» تحت الجلد السياسي يستحيل تجاوزه أياً كانت مستويات التراجع عما طالبت به.
بالتعريف: «يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة في الفضاء بلا أرض تقف عليها. وبالأثر: فإنها كأي ثورة أخرى في التاريخ ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.
هناك فارق جوهري بين قوة الدفع والقوة الكامنة. قد تتوقف قوة الدفع قبل أن تحقق الثورات أهدافها، ذلك حدث مراراً في تجارب تاريخية مماثلة، غير أنه لا يعني موتها سريرياً.
ومن مصادرها ارتباط «يناير» بعصر المعلومات وثورة الاتصالات، بما يجعل مستحيلاً فصم العلاقة بين الأجيال الجديدة وطلب الدولة الحديثة الديمقراطية والعادلة، وما ترسب عميقاً في الذاكرة الجماعية عن أجواء الثورة وأحلامها، مشاهد الجموع وهي تتدافع في طريق واحد، صلوات المسلمين في ميدان التحرير تحت حماية الأقباط خشية الاعتداء عليهم، والاستعداد للتضحية بالروح دون وجل، والغناء الجماعي ورسوم الجرافيتي.
كان أهم ما خلفته الثورة في أيامها الأولى تأكيد ثقة المصري في نفسه، أن المستقبل من صنعه ومصيره في يده والقرار قراره بشأن السياسات والرئاسات.
في لحظة تخلي الرئيس الأسبق «حسني مبارك» عن السلطة بعد ثمانية عشر يوماً من الثورة اهتزت الميادين والشوارع المصرية بهتاف تلقائي: «ارفع رأسك فوق أنت مصري».
كان الهتاف بنصه ورسالته تعبيراً عن مخزون غضب مكتوم انفجر بالثورة ضد فساد استشرى منهجياً ومقنناً بزواج السلطة والثروة وظلم اجتماعي وصل إلى حدود غير محتملة وانسداد لأي أمل في الإصلاح السياسي للنظام من الداخل.
يستحيل تماماً العودة إلى الوراء بلا أثمان باهظة، فقوة «يناير» الكامنة لها حساب وتأثير. كانت «يناير» ثورة شعبية حقيقية تقدمت مشاهدها الأجيال الجديدة.
في أول العرض التاريخي جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثوري شاملاً جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل في التاريخ المصري الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم». كان ذلك نفيًا لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلا بعد آخر وتسطيحاً في الوقت نفسه لطبيعة الثورة.
ثم جرى بعد ذلك تفكيك وحدة الجيل قبل أن ينكل به ويشهر بسمعته باعتبار رموزهم طابوراً خامساً يتآمر على الدولة. تلك قمة المأساة في القصة كلها.
بأخطاء متراكمة اختطفت الثورة، لكن ظلت قوتها الكامنة ماثلة في المشهد. بين أسباب الثورة والانكسار هناك حقائق لا يصح إغفالها عند أي قراءة لتلك القوة الكامنة.
كان أول تجليات التغيير الكبير ما شهدته مصر من استحقاقات انتخابية بأحجام المشاركين فيها وبطول الطوابير أمام صناديق الاقتراع، كما لم يحدث في تاريخها السياسي من قبل.
بغض النظر عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبت في استفتاء مارس/‏آذار (2011) على التعديلات الدستورية، فإن مستويات الإقبال عبرت وقتها عن ردم فجوة الثقة في العملية الانتخابية، فلكل صوت قيمته وحسابه وأثره على النتائج الأخيرة.
وبقدر وضوح الخيارات بين بدائل استنادا إلى فكرة التنافس الجدي يأخذ الإقبال مداه. ذلك ما حدث بالضبط في زخم «يناير»، وكان تطوراً جوهريا يومئ إلى إمكانية بناء نظام ديمقراطي حديث تتسع فيه المشاركة السياسية، ويتأكد حضور المواطن العادي.
كانت الانتخابات كالاستفتاءات، نتائجها معروفة سلفاً، والتنافس الانتخابي الجدي مستبعداً.كما كان أمراً مسلماً به أن تعلن السلطات ما تشاء من أرقام عن نسب المشاركة.
كل ذلك تقوض بخطايا سياسية لا يمكن غفرانها، فقد خرج استفتاء مارس بالتحريض الطائفي عن طبيعته المفترضة إلى فتنة مبكرة.
لم تكن التعديلات الدستورية محل إجماع، ولا القوى المدنية شارك أحد ممثليها في صياغتها.
حدث انقسام مبكر مع التيارات الإسلامية بجميع أطيافها على قاعدة طبيعة الدولة دينية أم مدنية رغم أنها لم تكن معروضة في المواد المستفتى عليها و«المجلس العسكري» نسخها بتغيير أغلبها وإضافة أضعافها إلى إعلان دستوري جديد أصدره.
كان أسوأ ما جرى روح التكبر على شركاء الوطن بعبارات طائفية كالتي أطلقها شيخ سلفي على شاشات الفضائيات: «إللي مش عاجبه يطلع بره البلد».
كانت تلك الخطيئة الأولى لجماعة «الإخوان» رهاناً على مجاراة السلفيين في دعاويهم خشية أن يفقدوا قواعدهم المحافظة بتشدد.
ثم كانت الخطيئة الثانية اعتبار الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة تستخدم مرة واحدة.
في الاستحقاقات التالية من استفتاءات وانتخابات نيابية ورئاسية تبدت حيوية سياسية في فرز المواقف والتحالفات. كان يمكن للعملية السياسية أن تمضي وتصحح أخطاءها، غير أن الجماعة تصورت أن بوسعها استبعاد القوى المدنية والاستفراد بالسلطة وبدا ذلك نذيراً بما هو آت.
بعد «يونيو» لاحت فرصة جديدة خذلتها السياسات بقسوة، حتى بدا الحديث عن إحياء العملية السياسية كأنه طلب لمستحيل. وكان تفكيك جبهة «الإنقاذ» خطيئة القوى والتيارات المدنية.
انحسار «يناير» لا يعني أن قوته الكامنة توقفت عن الفعل والتأثير.
انظر حولك بتأمل لتدرك أن للتاريخ دروسه التي لا يصح إغفالها، أو تجاهلها والاستهتار بها.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى