ماذا يحدث في لبنان؟
د. عبدالحق عزوزي
انتهت منذ أيام مهلة الأسبوعين، التي منحتها مبادرة الرئيس الفرنسي للساسة اللبنانيين لتشكيل الحكومة الجديدة، التي ستحل محل حكومة تصريف الأعمال بقيادة حسان دياب، والتي استقالت تحت ضغط الشارع عقب انفجار المرفأ، وقد تعقدت المشاروات في ظل تمسك «حزب الله» بحقيبة المالية وبتسمية ممثلي الثنائي الشيعي («حزب الله» وحركة «أمل») في الحكومة، بينما تريد قوى سياسية أخرى بينها «تيار المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية» مداورة الحقائب الوزارية، ولو كتبنا عن المفارقات والتناقضات والمستجدات في هذا البلد، لاحتجنا لآلاف الصفحات، وكلها منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، وهناك أمور معلنة وأخرى خفية، وهناك أمور حاسمة وأخرى مترددة، مما يوقع الجميع في لجة من التناقضات.
وإذا صح لي أن ألخص السبب الذي من ورائه دفنت المبادرة الفرنسية في مرفأ بيروت، فيمكنني القول بأنها دخلت في مزاد المحاصصة الطائفية والسياسية اللبنانية والشروط والشروط المضادة، وهنا الطامة الكبرى، فمريدو الطوائف كثُر في لبنان، وهم يقوضون كل محاولة لبناء وعي سياسي جديد بالمجال العمومي، وبدون هذا الوعي لا يمكن أن يكون أي شيء، وبدون تطبيقات فعلية لهذا الوعي، ستبقى الدولة في غيابات المجهول وفي دورات متتالية من الفوضى والمجهول واللاأمن، وإخراج الدولة من عنق زجاجة «التنكر لمسؤوليات المواطنة والعيش المشترك» مسؤولية تاريخية، ويستدعي ذلك جهداً فعلياً، لا مجرد إعلان نيات أو خواطر أو تركيب أساليب رنانة أو اجتماعات، بإيعاز من مبعوثين من دول أخرى، أو استبدالات لغوية يجد فيها المتفحص اللبيب علامات الانحطاط، ما دامت تذهل عن المضامين الحقيقية.
وسنجد أن من بين الأسباب الحقيقية لما وقع فيه لبنان اليوم، غياب الحكامة الجيدة وغياب الواقعية في التسيير، وغياب الأطر الكفئة أو تواجدها خارج المناصب التي يجب أن تشغلها، وكثرة المحسوبية والرشوة، وتوجيه الاستثمارات في اتجاهات خاطئة، تأتي على الميزانيات السنوية دون أن يجد المواطن اللبناني أي فائدة منها.
قارن معي: اليابان دولة مساحتها محدودة جدة، لكنها تمثل ثالث أكبر اقتصاد في العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم من آلة (حاسوب أو هاتف) صنعت في اليابان، فاليابان عبارة عن معمل كبير قائم على حسن التدبير والاستراتيجية الفعالة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، معمل يستورد كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنعة يتم تصديرها لكل أقطار العالم، وكما مثال آخر هناك بلد أوروبي صغير هو سويسرا؛ فرغم عدم زراعتها للكاكو، إلا أنها تنتج وتصدِّر أفضل أنواع الشوكولاتة في العالم، ورغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية، فهي تصدّر أهم منتجات الحليب في العالم.
وبالمقابل، فإن لبنان يعج بذوي الكفاءات الذين تجدهم في دول العالم يتقلدون مسؤوليات كبيرة ومناصب صناعية ومالية واقتصادية شتى.. وخلال وجودي في أوروبا، لاحظت أن للإخوة اللبنانيين ذكاءً خارقاً وقدرةً على الإنتاج والتكيف مع كل واقع، وأن اللبناني حتى ولو لم يكن يجيد السباحة، فإن رميته في البحر لخرج منه بسمكة، وأعني بذلك أنه لو سمحت لهم الظروف بالعودة إلى وطنهم، وامتزجوا مع كفاءات الداخل في جو سياسي جديد، لأحدثوا المعجزة، ولكان هناك «شأن عام» جديد يكون في خدمة اللبنانيين.
والحديث عن الشأن العام يعني الخوض في الحياة المعيشية للإنسان من مدخول وعمل وتطبيب وتدريس وتمثيل في المجالس المنتخبة.. للدفاع عن مصالحه، وهنا تكون الغلبة لمن هو أهل لتحمل أمانة ومسؤولية التسيير، فالكفاءة والخبرة والنزاهة أمور مفروضة فيمن يرغب بإدارة الشأن العام، كما أن السياسة يجب أن تكون قائمة على أصول صحيحة، وأن يكون الفاعلون في مجالها يوالون قبل كل شيء الدولة الوطنية بدل عمليات التجييش الطائفي، وإشعال وقود التشرذم ورفض الآخر.. لأهداف سياسية ولتحقيق أجندات يدفع ثمنها غالياً اللبنانيون الذين يجدون أنفسهم في معادلات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، من يتبناها يجد نفسه كمن هو باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.