قضايا ودراسات

ما حجب البصيرة

أضاعت قوى «الإسلام السياسي»، في أكثر من بلد عربي، فرصة ذهبية تيسرت لها غداة ما عرف بالربيع العربي، في أن تقدم نفسها بديلاً مقنعاً بانتهاج خط سياسي واقعي يحترم ما في المجتمعات من تعددية وتنوع، والتمسك ببنية الدول الوطنية القائمة ووحدتها، وإعطائها الأولوية على أي صورة من صور الولاءات الأخرى ذات الطابع الأيديولوجي أو المذهبي، وهو أمر تجاهلته، ما جعلها، وبوعي منها، أداة بيد القوى الإقليمية وحتى الدولية في لُعبْ التجاذب السياسي.

تيسرت هذه الفرصة الذهبية لسببين رئيسيين على الأقل، أولهما : أن المجتمعات بعد كل الذي جرى كانت تتطلع إلى بديل لما ثارت عليه، وثانيهما: أن القوى الأخرى، حداثية التكوين والرؤية والأفق، من قوى ليبرالية وقومية ويسارية، كانت، وما زالت، على درجة كبيرة من الضعف والتشتت، ما أفقدها فرصة تقديم نفسها لسد الفراغ الناشئ في تلك اللحظة، ما جعل من هذا «الإسلام السياسي»، بحكم ما بين أيديه من نفوذ، يركب الموجة ويقطف أولى الثمار.
لكنه بنفس السرعة التي فعل بها ذلك، أضاع الفرصة على نفسه، لأنه ومنذ البداية أطلّ بوجه شمولي، وكانت تنظيماته على عجلة من أمرها في الاستحواذ على كل شيء، في الدولة والمجتمع، مغفلة أن الاثنين معاً يتمتعان ببنية راسخة لا يمكن القفز عليها بالرغبات، فكما هناك دولة عميقة، عبارة عن مؤسسات وأجهزة ونظام بيروقراطي معقد وشبكة واسعة من المصالح، فإن هناك أيضاً مجتمعاً عميقاً، هو نتاج مسار تاريخي طويل من التطور والتحديث، رغم كل تشوهات هذا التحديث، لا يمكن أن يقبل بإدارته إلى الوراء قسراً.
اجتاحت قوى «الإسلام السياسي» لحظتها حال من النشوة والغرور، عبر عنها يوسف القرضاوي في أحد أحاديثه المتلفزة وهو يعدد الأنظمة التي ستتساقط واحداً بعد الآخر، مخلية المكان لجماعته، وهذه النشوة حجبت بصيرة هذه القوى عن إدراك كل التعقيدات المحيطة، ما عاد بالوبال لا على هذه القوى وحدها، وإنما على المجتمعات العربية كافة، وإن بنسب متفاوتة.
ثمة أمران هنا جديران بالتنويه. الأول هو مسؤولية القوى الحداثية عن هذا المآل، بسبب ما هي عليه من عجز وارتباك ومن ضعف في قدراتها التنظيمية والشعبية، ما أخلى الساحة فعلياً من البديل التقدمي، وأسباب ذلك كثيرة بينها تقاعد الكثير من النخب عن العمل السياسي، أو جنوح بعضها إما نحو الليبرالية المبتذلة أو ممالأة التيارات الإسلامية.
أما الأمر الثاني فهو على شكل سؤال: هل بوسع قوى الإسلام السياسي، بالنظر إلى بنيتها الفكرية المغلقة، أن تتصرف، من حيث المبدأ، على نحو آخر غير الذي تصرفت به؟
د. حسن مدن
madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى