«مخيم كاليه».. قصة بشر يعيشون في «غابة»
تحرير: مجموعة من الكتّاب – ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
في كثير من الأحيان يسمى مخيم كاليه للاجئين في شمال فرنسا بالغابة، لأن الوضع فيه يجسد الكثير من المعاناة، وحالة من عدم اليقين، فضلاً عن العنف الذي يفرض نفسه في حياة تفتقد إلى أبسط المقومات التي تشكلها. في هذا العمل نتعرّف إلى قصص بعض من سكّان هذا المخيم، وكيفية الوصول إليه، ثم الحياة فيه. إلى جانب ذلك نشعر بتأثير الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط وإفريقيا التي تدفع بأجيال كاملة إلى الهجرة عن أوطانها. يسعى الكتاب إلى تقديم فهم للعواقب البشرية المتعلقة بالأزمة العالمية الراهنة.
يصل العديد من المهاجرين بشكل يومي من بلدان تشهد صراعات مثل سوريا، وجنوب السودان، وأفغانستان، وليبيا، والعراق، إلى مخيمات اللجوء وكاليه واحد منها، حيث يأمل هؤلاء إيجاد ملاذ لهم بعيداً عن أوطانهم التي مزقتها الحرب، وطمعاً في الحصول على فرصة دائمة للاستقرار في أوروبا. وبتجاوز التقارير الإعلامية السطحية، فإن أصوات «الغابة» تمنح صوتاً للأفراد الذين عاشوا في مخيم كاليه، هؤلاء الذين قاموا برحلة صعبة من البلدان المدمرة، بحثاً عن السلام والأمان، وليعكس في الوقت عينه وضع اللاجئين في المخيّمات المؤقتة والمعاناة التي يجدونها على الطرق.
في هذه المجموعة من الشهادات الفردية، يتحدث لاجئون بشكل صريح ومباشر عن قصص قوية وحية، ويستعرضون ذكرياتهم بكل صدق، متحدثين عن أحلامهم الطفولية ونضالاتهم من أجل التعليم، ومشاهداتهم عن الإبادات الجماعية، والحروب والاضطهاد، الذي دفع بهم خارج أوطانهم، وعن تأثير الإرهاب على مجتمعاتهم، ثم يتحدثون عن واقع المعيشة في مخيم كاليه للاجئين، وآمالهم العميقة في المستقبل الذي يتطلعون إليه.
صور من الغابة
من خلال قصصهم يرسم هؤلاء اللاجئين صورة لنوع مختلف من الغابة، حيث تشكّل لديهم شعور قوي في المجتمع الذي نما هناك على الرغم من عمليات الإخلاء والهجمات والتضامن الذي يتجاوز الحدود الوطنية والدينية. وتتخلل الكتاب صور التقطها سكان المخيم، الذين تم تعليمهم من قبل المصورين الحائزين على جائزة «جيدون مندل وكريسبين هيوز»، إلى جانب صور تتعلق بالأعمال الفنية الأصلية من قبل السكان وقصائد مؤثرة.
بالنسبة للمؤلفين كانت «الغابة» منزلاً، لمدة قصيرة أو طويلة. وكانت مرحلة من قصص حياتهم التي شكلتها الحروب أو قصص القمع أو ربما كانت سعيدة في جزء منها. وبعض هؤلاء يقطن الآن في المملكة المتحدة، والبعض الآخر بقي في فرنسا، وبضعة أفراد منهم توجّهوا إلى دول أوروبية أخرى. في أكتوبر 2016، كان العديد منهم لا يزال يعيش في المخيم، أو بالقرب منه. وينتمي المؤلفون إلى دول عديدة هي: أفغانستان، وإثيوبيا، وإريتيريا، وإيران، والعراق، وباكستان، والسودان، وسوريا.
ويشمل الكتاب أبطال العمل القاطنين السابقين لمخيم كاليه، وهم: رياض أحمد، وعلي هاجوي، وباباك إينالو، وماني، وميلكيسا، وإفريقيا، وإريتريا، وشاهين أحمد والي، وشكيب، وتيدي، وهاريس حيدر، وتعاون الكتّاب مع فريق من المحررين من جامعة «إيست لندن» هم: ماري غودين، وكاترين مولر هانسن، وأورا لوناسما، وكورين سكوير، وطاهر زمان. والكتاب صادر حديثاً عن دار «بلوتو برس» البريطانية في 266 صفحة من القطع المتوسط باللغة الإنجليزية.
ظروف بائسة
يأتي الكتاب بعد المقدمة في خمسة أقسام هي: الوطن، والرحلات، والحياة في الغابة: الوصول والاستكشاف والاستقرار، والحياة في الغابة ومغادرتها: والارتباط، والشوق ومحاولة المغادرة، والحياة بعد الغابة. وينتهي الكتاب بخاتمة.
ومما يذكره المؤلفون في مقدمة الكتاب: «هدف هذا الكتاب هو استحضار القصص الشخصية للأشخاص الذين عاشوا كلاجئين خلال 2015 – 2016 في مخيم كاليه على الساحل الفرنسي الشمالي، فقط على بعد 26 ميلاً من المملكة المتحدة. كانت هناك مخيمات لاجئين في وحول كاليه من قبل، ولا تزال هناك مخيمات صغيرة موجودة في المنطقة. على العموم في ربيع 2015، وعلى موقع مكب للنفايات في ضواحي مدينة كاليه، بدأ مخيم غير رسمي للاجئين بالنمو. هذا المخيم أطلق عليه اسم «الغابة» أولاً في الإعلام الفرنسي، وثم من قبل قاطنيه، ولاحقاً من قبل الإعلام العالمي أيضاً، حيث تميز بالسكن السيئ، والطعام القليل، والخدمات الصحية والمائية غير الكافية، وضعف التمديدات الصحية. لم يكن هناك من شرطة داخل المخيم، وغالباً ما تحدث شجارات، وينشط فيه المهربون، كما يمكن أن يحدث انفجار بنيران الطبخ أو الشموع أو الغاز، حيث تدمر منازل المتواجدين وملاجئهم. المقيمون فيه تبنوا اسم «الغابة»؛ لأن العديد منهم قال إنه: «لا يمكن للبشر أن يعيشوا في مثل هذه الظروف».
ويضيفون: «مع توافد اللاجئين إلى أوروبا بأعداد كبيرة بعد صيف 2015، توسعت «الغابة» في الحجم، متحدّية، حتى هدمته الحكومة الفرنسية التي قللت من مساحته بمقدار الثلثين في مارس 2016. كان المخيم منزلاً لعشرة آلاف مقيم في الوقت الذي أغلقته الحكومة الفرنسية في أكتوبر 2016، وقاطنوه توزعوا في أنحاء فرنسا. اتسمت «الغابة» بسمعة سيئة في كل أنحاء العالم بسبب ظروفها البائسة. لقد شكل المخيم إحراجاً سياسياً ليس فقط للسلطات الفرنسية؛ بل أيضاً للبريطانية، حيث يرغب أغلب القاطنين فيه بالتوجه إلى المملكة المتحدة التي تفرض أسيجة وتوزع الشرطة والطواقم العسكرية في القطارات والشاحنات والقوارب».
مصاعب على طريق اللجوء
ومن القصص التي نستعرضها، نترجم مقتطفاً من قصة لشاب سوري يتحدث عن المصاعب التي واجهها، والأسباب التي دفعته للتوجه إلى كاليه، يقول: «بدأت التفكير بشكل جدي في الذهاب إلى المملكة المتحدة وسرعان ما وصلت إلى ألمانيا. كنتُ في غاية الحماسة للسفر إلى إنجلترا. لكن بالصدفة اخترت التوقيت الأبرد والأصعب للذهاب. الخطة كانت أنني سأحاول لمدة 15 إلى 20 يوماً. إذا ما نجحت، سأكون في لندن. وإذا لم أنجح، سأعود أدراجي، إضافة إلى ذلك، فسأكون قد حسّنت مهاراتي وتجربتي في الحياة. بالتالي كان لديّ هدف واضح. بعد يوم من المحاولة للتسلل إلى قطار «يوروستار» في باريس، التي بدت مستحيلة بالنسبة لي، خاصة على صعيد المشي في الشوارع والمحطات، إلا أنني وصلت مخيم كاليه أخيراً. على الرغم من أنه كانت لديّ خريطة، لكن لم أعرف الطريق، وكنت خائفاً من الشرطة. من الخامسة مساء إلى السابعة مساء، كنت أبحث عن المخيم، مررت بالعديد من المناطق. أخيراً اتبعت بعض الشبان الذين بدوا أنهم من المخيم (كانوا أفغاناً) ووصلت هناك. فيما بعد، أخبرني الأصدقاء أن الطريق الذي سلكته هو أخطر طريق، لأنه يقع تحت سيطرة المهربين الذين يحاولون ضرب أي شخص يأخذ هذا الطريق دون إذنهم، وذلك بهدف الحفاظ على الطريق إلى العبّارات لأنفسهم».
ويضيف: «على العموم عندما وصلت إلى المخيم، شعرت بالدهشة، حينما لم أجد منازل ولا كهرباء. كانت هناك ملاجئ فقط، وبعض الخيم، وأناس غرباء (كانوا غريبي الأطوار ووجوههم مخيفة). وصلت بعد يومين من السفر مع معدة فارغة، وقدم مكسورة. لم أكن أعرف أحداً، وليست لديّ اتصالات مع أحد، فقط كنت أشاهد مكاناً يعود إلى العصور الأوروبية الوسطى».
وأيضاً من ضمن القصص التي نقرأها في هذا العمل قصة لاجئ عراقي يتحدث عن حياته، وهو في كاليه، والوضع المزري الذي كان فيه، فيقول: «أقيم في خيمة مع أشخاص أصبحوا أصدقائي. في الليل، نذهب إلى خيمتنا، ونتحدث عن المستقبل، وعن خططنا وأحلامنا. نتحدث عن الماضي وعن الحياة والحرب في العراق. تريد أن تسأل: ماذا رأيت؟ ماذا فعلت؟ بماذا تفكر الآن؟ وكيف ترى المستقبل؟. إنها أمور صعبة وقاسية». كما يشير أحد اللاجئين من إيران إلى أن رحلته في كاليه غيّرت لديه كثيراً من التصورات عن الأفارقة بشكل عام، فقد كان يراهم خطرين، إلا أنه بعد مرور فترة من الزمن أدرك أن أكثر أصدقائه المخلصين والأوفياء هم من دول إفريقية عديدة، وخاصة من السودان. إذا وجد نفسه محاطاً بمجموعة منهم. باتوا عائلته الفعلية.
في ظل المأساة
ومن بين القصص المؤثرة أيضاً، قصة الشاب الإيراني باباك، الذي يقول كلمة في ختام هذا العمل: «علينا أن نتذكر أننا نستطيع الاستفادة من كل اللحظات في حياتنا. نستطيع أن نبني حياتنا بالطريقة التي نريدها. علينا أن نكسر الحدود داخلنا. عندما أفكر برحلتي، وكيف كان عليّ أن أغادر كل شيء في بلادي، كان الأمر قاسياً، وينتابني الحزن. لكن عندما أعود إلى طفولتي، أتذكر أنني حلمت بالسفر حول العالم. انظر أين أنا الآن! صحيح أنني جئت إلى هنا بكثير من الصعوبات، لكنني سافرت إلى عالم جديد. عشت مع ثقافات مختلفة، ورأيت أناساً جدداً. تعلمت الكثير من الأشياء الجيدة. أنا أسير على الطريق لتحقيق أحلامي. كل أحلامنا تتحقق بالطريقة نفسها. أولاً نبنيها في رؤوسنا. ثم نبني الجدران التي تكون على الطريق إلى الأحلام. لكن إذا لم نفكر بهذه العوائق، نصل إلى أحلامنا بسهولة. في الحقيقة ليس هناك شيء صعب المنال، فقط نحتاج إلى الرغبة فيه، والعمل للوصول إليه، وأن نتحدى المخاوف التي من شأنها أن توقفنا عن الوصول إليه، وأن نهزمها. ربما يأخذ الأمر قليلاً من الوقت، لكنه سيحدث. كل ما هو مطلوب العمل لجعله يحدث!».
وأحد الأبطال في هذا العمل صومالي يدعى إفريقيا، الذي أحبّ إنهاء العمل بمقولة لتشارلي شابلن من فيلمه الكوميدي «الديكتاتور العظيم»: «أنا آسف لا أريد أن أكون إمبراطوراً. فذلك ليس عملي. لا أريد أن أحكم أو أهزم أي أحد. أود أن أساعد الجميع». ويضيف (والكلام لشابلن): «جميعنا يريد أن يساعد الآخرين. فالبشر هكذا. نريد أن نعيش في ظل سعادة بعضنا بعضاً، وليس في ظل مأساتنا. لا نريد أن نكره، وأن نقلل من شأن بعضنا بعضاً. في هذا العالم، هناك مساحة للجميع. والأرض الجيدة غنية، ويمكن أن تدعم الجميع. طريقة الحياة يمكن أن تكون حرة وجميلة، لكننا فقدنا الطريق». ويتحدث شاب آخر يدعى علي من إيران عن تجربته في مخيم كاليه: «أثناء الليل في الغابة، كانت الشجارات تحدث بين الشرطة والناس. ما وراء الجسر، كانت القواعد تتغير، وتكون السلطة في أيادي الأقوياء. يكون الأمر أشبه بفيلم «هوليوود» بعض الأحيان، حيث يتحكم الأشرار في أجزاء كبيرة من المدينة، والشرطة تحاول أن تتعامل معهم. ربما يكون البطل في هذا الفيلم هو رجل الشرطة الصالح الذي يأتي ويُزيل كل القاذورات والرذائل من المدينة. لكن مخيم كاليه ليس فيلم هوليوود أو حكاية بطل. هذا المخيم هو «غابة» في داخلها آلاف من الناس ينحدرون من مئة جنسية مختلفة، بآراء واعتقادات مختلفة. لا يمكن لفيلم أو صورة أو كتاب أن يظهر مدى المأساة. تحتاج إلى رؤيته والعيش فيه لمعرفته». ويمضي في كلامه: «يكون كل لاجئ بطلاً بحد ذاته، لأجل الكفاح، ومحاولة النجاة بنفسه والمضيّ نحو تحقيق أحلامه. سكان هذه «المدينة» يقعون في الحب، ويتعلمون، ويعيشون، ويحاولون تقديم المساعدة. ربما بعضهم يغش، ويسرق، ويخرق القانون، ويلحق الضرر بالمدينة، لكن هذه الأشياء السيئة لم تأتِ من طبيعتهم. هؤلاء الناس هم ضحايا العالم الثالث، والعالم الثالث موجود لأن هناك العالم الأول!».