مقاربة رمضانية
خيري منصور
من بقي على قيد الحياة والذاكرة معاً من الجيل الذي عاش في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي لا يستطيع تجاوز المقارنة بين رمضان تلك الأيام وبين أيامنا، وبالتأكيد ثمة انحياز عاطفي ونفسي لما يسمى أيام زمان، لأن الإنسان مفطور على هذا الحنين لما عاشه، لكن المبالغة في الحنين إلى الماضي تتحول إلى نوستالجيا تحرم الإنسان من معايشة الحاضر، فليس كل ما مضى كان ذهبياً وربيعياً، ولكل عصر آلامه وأفراحه وأتراحه أيضاً.
لكن ما تبقى في الذاكرة هو على الأغلب اللحظات المحررة من الألم، لأن الشجن الدافئ والحميم يحل مكان الألم.
وإذا كانت المقارنة تنتهي لصالح أيام زمان، فذلك له أيضاً أسباب موضوعية تتجاوز مجرد الحنين، فعدد الناس كان أقل بكثير مما هو الآن، ولم يكن الزحام يعوق الحركة، وهذا ما عبر عنه الشاعر أحمد حجازي حين قال: هذا الزحام لا أحد.
إضافة إلى أن منجزات التكنولوجيا ذات الصلة بالإعلام ووسائل الترفيه لم تكن قد بلغت هذا الحدّ الذي يفرض على الإنسان العزلة، فهو الآن يسهر مع ذاته ويأتي إليه العالم بكل ما يعج به من أخبار وغرائب إلى غرفة نومه، ويستطيع التواصل مع آخرين في أقصى الأرض من دون أن يضطر لأن يتحرك خطوة واحدة.
وحين نشاهد البرامج الرمضانية التي كانت تُبَثٌّ بالأبيض والأسود نجد أنها شاملة وتغطي كل مساحات الواقع الحي، فالعالم تغير وكان لا بد لكل المناسبات أن يطرأ عليها شيء من التغيير، ولعلها من سنة الحياة ونواميس الوجود أن تختلف الأمزجة والذائقات بين الأجيال، لأن إيقاعات الحياة مختلفة، وكذلك سلم الأولويات، والأرجح أن فائض الدراما التلفزيونية التي وجدت مجالها الحيوي خلال رمضان جاء على حساب فعاليات ثقافية وحوارات من طراز تلك التي كانت تبث قبل عقود، وأحياناً يكون الفائض إفقاراً وليس إثراءً، لأن مئات الفضائيات التي تقلد بعضها وتعزف على الوتر ذاته تقلُّ في نفوذها وتأثيرها عن قنوات أرضية محدودة، لكنها ذات جذور في الواقع!Original Article