غير مصنفة

مقدسيون.. ومطبعون

عبدالله السناوي

قضية القدس حساسة وشائكة ومصيرية. تلك حقيقة نهائية تستدعي أوسع تضامن شعبي عربي، فاعل ومتصل، لدعم صمود المقدسيين في البلدة القديمة.
كيف؟.. هذا هو السؤال.
أسوأ إجابة ممكنة دعوة الجمهور العربي على اختلاف توجهاته ومشاربه لزيارة القدس وتجاوز كافة المحظورات، التي استقرت لعقود طويلة.
الفكرة قديمة والإلحاح عليها معتاد من رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في تصريحات عامة، أو باجتماعات مغلقة كما استمعت أكثر من مرة، ومن عباراته الأثيرة أن «زيارة السجين لا تعني تطبيعاً مع السجان».
لم تكن هناك مفاجأة أن يدعو مجدداً إلى زيارة الأراضي المحتلة من على منصة القمة الإسلامية الطارئة، التي التأمت بإسطنبول للرد على اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» وشروعه في نقل سفارة بلاده إليها.
كما لم تكن هناك أية مفاجأة أن يردد الدعوة نفسها قبله بأيام وزير خارجيته «رياض المالكي» أمام الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة.
في الاجتماعين الطارئين لم يعلق أحد، ولا وردت أية إشارة في البيانين الختاميين، لا بالسلب ولا الإيجاب، إلى ما ذهبت إليه السلطة الفلسطينية، ولا السلطة نفسها بذلت جهداً يعتد به في الكواليس لتضمين دعوتها في قراراتهما.
الحقيقة أنها أرادت مخاطبة الرأي العام العربي مباشرة واستثمار اللحظة لدفع قطاعات واسعة لزيارة المدينة المقدسة باسم دعمها دون التنبه إلى أن أهم قرار رمزي صدر عن القمة الإسلامية الاعتراف بالقدس عاصمة تحت الاحتلال لدولة فلسطين.
المعنى الصريح أن من يزورها فهو مطبع دون أدنى لبس مع السجان بلا ادعاء أن بوسعه أن يدعم سجيناً، فكل شيء يمضي تحت الرقابة العسكرية «الإسرائيلية»، تمنح وتمنع أختامها للمرور إلى حيث المقدسات الإسلامية والمسيحية.
باليقين فإن جمهرة الرأي العام من المحيط إلى الخليج لن تلبي الدعوة، وقد تنحرف السجالات من كيف ندعم الانتفاضة إلى مآلات أخرى لا تليق بالتحدي الوجودي الماثل.
وباليقين فإن المطبعين أنصار الرواية «الإسرائيلية» والذين يودون لأسباب مختلفة مد التواصل مع الدولة العبرية، سوف يجدون في مثل هذه الدعوة غطاء أخلاقياً لارتكاب أبشع التنازلات بحق أية قيمة وبيئة مواتية لعقد الصفقات التجارية والسياسية مع دولة الاحتلال.
ذلك يفضي إلى إرباك المشهد الفلسطيني، الذي بدأت انتفاضته الثالثة تأخذ مداها، وصور المقاومة الشعبية تلهم العالم أن هناك شعباً يقاوم قوات احتلال تضرب بالرصاص الحي المظاهرات السلمية، تطارد بالخيالة تخويفاً وإرهاباً، تفض اعتصامات في محيط المسجد الأقصى بأقصى درجات القوة، تقصف غزة وتغلق معبريها مع القطاع المحاصر، وتعتقل المئات من داخل بيوتهم في المدينة المقدسة والضفة الغربية، التي يفترض أن للسلطة ولاية عليها!
بعض الصور يثبت دون ادعاء أن قضية القدس غير قابلة للتصرف، أو المقايضة.
وبعضها الآخر يكشف مدى الاستعداد للتضحية والمواجهة من أصحاب الحق في المستقبل من شبان وشابات يتصدون لجنود الاحتلال دون خشية أو وجل، وبشجاعة لا نظير لها.
بالتوقيت تبدو الدعوة الرسمية لزيارة القدس كقنبلة دخان تحجب الأسئلة الرئيسية التي يترتب الإجابة عليها.. الآن وليس غداً.
ما مستقبل المصالحة الفلسطينية وتحت أي أفق سياسي؟.. ما الخطوات العملية التي يتعين اتخاذها لدعم الانتفاضة الثالثة حتى لا تجهض أو تتبدد تضحياتها؟.
وبالتوقيت فإن الدعوة الملحة لزيارة القدس تربك الغضب العربي بمسيحييه ومسلميه على نحو قد يسحب من زخم دعم الانتفاضة الفلسطينية.
العمل الشعبي الاحتجاجي بالأراضي المحتلة، في القدس بالذات، هو جرار لموجات الغضب العربي، وقدرة الرأي العام على الضغط على حكوماته، وبعض مواقفها رخوة والبعض الآخر عليه تساؤلات وشبهات. كما أن استمرار الاحتجاجات بالعالمين العربي والإسلامي، وداخل الحواضر الأوروبية نفسها من أصحاب الضمائر الإنسانية، ضروري لإمداد الانتفاضة بفوائض ثقة في النفس والقدرة على مواصلة أدوارها في عرض قضيتها كما يجب أن تطرح: شعب تحت الاحتلال يمارس حقه في المقاومة.
إذا ما حرفت القضية عن مسارها الطبيعي فكل شيء سوف يتقوض، الانتفاضة تجهض قبل أن تحقق أهدافها، والتطبيع يمضي بخطى متسارعة إلى حيث تطلب «إسرائيل». مثل هذه الملفات الحساسة تحكمها المبادئ لا النوايا.
ما نحتاجه بالضبط إدراك الحقائق والعمل على دعم المقدسيين دون تورط في التطبيع المجاني. من أهم الحقائق في بلد عربي جوهري مثل مصر ذلك الإجماع بين قواه الحية ونقاباته ومثقفيه على رفض كافة أشكال التطبيع منذ أواخر سبعينات القرن الماضي.
وقد كان دفاعاً شعبياً عن الأمن القومي واحترام البلد لنفسه وتاريخه وهويته في مواجهة استحقاقات المعاهدة المصرية -«الإسرائيلية»، التي وضعت التطبيع على رأس أولوياتها، لكنه استحال إلى ما سمي بـ«السلام البارد»، الذي يراد له الآن أن يكون دافئاً ومجانياً.
لم تكن مصادفة أن أول منظمة شعبية أنشئت في ذلك الوقت لمقاومة التطبيع حملت اسم «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» في إشارة إلى تلازم رفض التطبيع مع كل ما له قيمة ثقافية وحضارية وتاريخية.
ولم تكن مصادفة أخرى الموقف الذي انتهجته الكنيسة الوطنية المصرية في تحريم ذهاب الحجاج المسيحيين إلى المدينة المقدسة المحتلة، حتى لا يقال إن «أقباط مصر خونة الأمة العربية» حسب تعبير البابا الراحل «شنودة الثالث» الذي كانت عباراته المتحدية تتردد في الفضاء العام، رفضاً لأي تطبيع حتى تتحرر القدس.
ليست هناك مصلحة واحدة في الخروج عن المتطلبات الحقيقية للمواجهة الجارية الآن على الأرض الفلسطينية المحتلة، التي تقتضي نصرة القدس لا خذلانها بالتطبيع المجاني.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى