قضايا ودراسات

من هم خوارج العصر المقيمون في ضلالاتهم؟

د.عمر عبد العزيز
التخبط الماثل في الدبلوماسية الغربية تومئ ضمناً إلى المقاربات الأمريكية التقليدية تجاه ما جرى ويجري في الشرق الأوسط، وأبرز تلك المقاربات تتمثل في تعارض الأقوال مع الأفعال، فبقدر الحديث المتواتر غربياً عن جوهرية وأهمية مكافحة الإرهاب المنفلت من كل عقال، بنفس هذا القدر يجري التحفظ على الإجراءات الراديكالية التي تتخذ هنا أو هناك ضد هذه الظاهرة، لكن الأدهى والأمر من ردود الأفعال الكلامية والتطبيقية نراه في الإصرار على عدم تشخيص وتحديد منابت ومنابع هذه الظاهرة، وكيف تحولت من الاعتقاد الطهراني (البوريتاني) إلى فعل سياسي واضح الملامح.
تشترك الأديان السماوية شرق الأوسطية في المنابع الكلامية العقدية ذات الصلة بالتطرف حيناً وبالاجتهاد المشروع في أحايين أخرى، ففي تاريخ العرب المسلمين توزع الخوارج إلى فئات، فمنهم من تطرف حد الدموية ومقاتلة مخالفيهم في الرأي، ومنهم من تمسك بوسطية مقرونة بالتباعد الإجرائي عن المختلفين من المسلمين، ومنهم من انحاز لهذا الطرف دون ذاك، مما لسنا بصدد تفصيله في مقال عابر.
في المقابل تباينت مرئيات الكاثوليكية المسيحية المتوسطية مع الأرثوذوكسية المشرقية التي اعتبرت نفسها ممثلة للدين الحق، وانطوت تلك الخلافات على أبعاد قومية سلالية تمترس حولها السلافيون الأورو- آسيويون على خط الأرثوذوكسية، في مقابل اللاتين المتوسطيين على خط الكاثوليكية، وبالتداعي الحر ظهر النورديون (الشماليون) ليشقوا عصا الطاعة ويذهبوا بعيداً في نزعتهم التطهرية (البوريتانية) ليصبحوا تالياً الخصم العنيد للكاثوليكية الأوروبية.
كانت البداية مع الراهب مارتن لوثر الأول المؤسس للبروتستانتية الدينية الكالفينية، وترجمتها بالعربية (المحافظون الطهرانيون) ممن مازجوا بين ثقافة (الفايكونج) العنفية القبائلية والمفاهيم التفسيرية الدينية المحايثة لأساطير (العهد القديم)، وكانوا بهذا المعنى نموذجاً صارخاً للتعصب والعدمية والعنف المنفلت من كل عقال.
هذه النظرات والاجتهادات الدينية لم تتباعد كثيراً عن المتغيرات السياسية، بل كانت دوماً رافعة كبرى من روافعها العاتية، وليس غريباً والأمر كذلك أن تقبع النخب الأمريكية التي تداولت السلطة في الولايات المتحدة منذ تأسيسها، في شكل من أشكال البروتستانتية الكاليفينية المغلفة بأوراق سلوفان الديمقراطية الناعمة، وليس غريباً أيضاً أن تتبنى هذه النخب المالية الأوليغاركية الجماعات العنفية المتطرفة في العالم العربي، بوصفها الوجه المقابل لذات العملة الكالفينية النيتشوية المقدسة.
الشاهد الماثل أمامنا يتمثل في حرب أفغانستان الأولى على عهد النظام الشيوعي هناك، والشاهد الأكثر وضوحاً يتمثل في إطلاق سياسيات الفوضى الخلاقة والمبادآت الاستراتيجية القاضية بإسقاط الأنظمة هنا وهناك، واعتبار أن دوائر التطرف المحتمل، خير حامل لخلط الأوراق وتعميم الفوضى، ولقد تم ذلك حقاً وفعلاً في أفغانستان والعراق والصومال، ثم تمدد بقوة مع (الربيع العربي)، لتتحول آمال الجماهير ورغبتها العفوية في التغيير إلى مركب جامح للدين السياسي الغامض، والبرغماتية المافيوية للنظام القديم الذي سرعان ما أطل برأسه ليعقد حلفاً مقدساً مع الفوضى الشاملة.
كان النظام في قطر يمثل الترميز المكثف لهذه الحالة، وكانت أدواته الإعلامية والمالية تدار من ذات المراكز (الروتشيلدية) التي دأبت على استخدام وسيلتي المال والخطاب الصارخ بوصفهما الضمان الأكبر لتدوير الرؤى (الإنجيلية الكالفينية) المستمدة من أساطير العهد القديم، والمتسقة مع النزعتين القومية والدينية للبروتستانتية الأنجلوسكسونية.
في الولايات المتحدة تظهر هذه الحقيقة بوصفها المعيار الأكبر في النظر للعالم العربي، لكن أوروبا الغربية التي يفترض بها أن تكون على مسافة متزنة من هذه الحالة، مازالت تسير وراء القاطرة الأمريكية رغماً عن تعددية منابعها التاريخية.
القاسم المشترك الأعلى بين صانعي الفوضى الخلاقة يتمثل في التحالف الصهيوني بوجهيه المسيحي واليهودي، وكلا الوجهين لا يتصادمان مع أديان الشرق المتعددة فحسب، بل مع اليهودية الموسوية والمسيحية العيسوية، وبطبيعة الحال مع إسلام الفطرة والتآخي والتعايش.
كل المتطرفين في العالم هم (خوارج العصر) لاعتقادهم بامتلاك الحقيقة، وإصرارهم على تقسيم البشر إلى فئات متفاوتة في حظوظها ومثابتها عند الله، ولإقامتهم الراسخة في ضلالات الماضي القريب والبعيد.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى