مواجهة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا
تأليف: إيدوي بلينال
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
في بداية القرن الحادي والعشرين، كان كبار المفكرين الفرنسيين يدعون أن «هناك مشكلة مع الإسلام في فرنسا»، وبالتالي كان هذا الأمر يضفي الشرعية على خطاب «الجبهة الوطنية» العنصرية، وقد تعززت مثل هذه الإدعاءات مع ردة الفعل إزاء الهجمات الإرهابية في باريس في العامين الأخيرين، التي جاءت لتمثل «إحساساً مشتركاً» جديداً في المشهد السياسي، وشهدنا منطقاً مشابهاً يظهر في الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عام.
يقف الكاتب الفرنسي إيدوي بلينال في هذا العمل بعنوان «لأجل المسلمين: الإسلاموفوبيا في فرنسا» إلى جانب مواطنيه الفرنسيين المسلمين، في وجه أولئك الذين يجعلونهم كبش فداء، لخدمة أهدافهم السياسية، ويوضح كيف أن «الأصولية الجمهورية والعلمانية» أصبحت قناعاً لإخفاء شكل جديد من ضراوة الإسلاموفوبيا. وهو هنا لا يتضامن فقط مع المسلمين، بل يدافع بشكل مستميت عن تاريخهم في تراث النضال التحرري لفرنسا، تماماً كما كتب من قبل زولا مدافعاً عن اليهود، وسارتر في الدفاع عن السود.
يحاول الكاتب الفرنسي إيدوي بلينال في عمله هذا، أن يتطرق إلى ظاهرة تنامي الكراهية تجاه المسلمين في فرنسا، ومناقشة عدد من المفكرين الذين يروجون للأفكار التي تزيد من الهوة في المجتمع الفرنسي، من خلال تقديم نماذج مسلمة ساهمت في المجتمع الفرنسي بفعالية.
ويأتي الكتاب في 94 صفحة من القطع المتوسط، ترجمه من الفرنسية إلى الإنجليزية ديفيد فيرنباج لصالح دار «فيرسو» الأمريكية للنشر، وقد نشر الكاتب عمله هذا في 2014، إلا أنه رجع وحدّثه في 2016، بعد تصاعد اليمين المتطرف الذي يصعّد من حملاته ضد المسلمين في فرنسا. ويهدي عمله إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (95 عاماً)، الذي أنار الطريق على حد تعبيره، وينقسم الكتاب إلى مقدمة بعنوان «ضد الكراهية»، ملحقة بعشرة أقسام على شكل مقالات مطولة، يتحدث فيها عن القضايا المتعلقة بالإسلاموفوبيا في فرنسا، وألحق العمل برسالتين إحداهما إلى فرنسا والثانية بعنوان لافت هو «الخوف عدوّنا».
في وجه الكراهية
تحت هذا العنوان يبدأ الكاتب عمله، ويحاول أن يوجّه إنذاراً إلى الشعب الفرنسي بضرورة عدم الغرق في مسألة تعميم الكراهية تجاه المسلمين، لأن بضعة متطرفين قاموا بعمليات إرهابية لا يمثلون الدين الإسلامي، على مبدأ «الإرهاب لا دين له»، ويذكرهم بضرورة التمييز بين الإرهابيين وأي جماعة دينية قائلاً: «لم تنتشر فقط الأفعال الإسلاموفوبية في أعقاب هجمات باريس 2015، بل انتشر التحامل عليهم، حيث تم اختزال الأمر فيهم على الرغم من تنوعهم العميق، واستغل اليمين المتطرف في فرنسا هذا الأمر، وعمل على تنميته في الأوساط العامة، ليستقطب مزيداً من الأصوات لأجل تمرير أجندته، وفرض هيمنته على الساحة الانتخابية».
ويضيف أنه في العديد من المواقف المختلفة لدى العديد من الوجوه، من ماريان لوبان إلى دونالد ترامب، الإسلاموفوبيا اليوم تنجز الوظيفة الثقافية التي كانت موجهة ضد السامية في الأمس، وهي باتت الأزمة الأخيرة للحداثة الغربية التي تسعى إلى فرض الهيمنة الإيديولوجية لهوية قومية قائمة على الإقصاء والرفض، وعدم التسامح مع الأقليات.
وبالقيام بهذا التأسيس، وتغذية التحامل ضدهم، وترويج أن «العدو في الداخل»، ولا يمكن استيعابه، فهو أجنبي، فاسد، يقوم بالتهديد وغيرها من المسميات، يمكن أن تصبح البلاد بالإجبار في هوية واحدة، بالتالي أي تعريف لها ودفاع عنها يكون من النظام الأعلى، والذي بدوره يمنع نشوء أي تحد للنظام المتأسس.
انتهازية اليمين الفرنسي
ينتقد الكاتب سياسات اليمين المتطرف في فرنسا، ويجد أنه منذ العقود الأخيرة، وهو يحاول استقطاب الجماهير من خلال تضخيم تهديد الأجانب والمهاجرين، ويجده يتغذى على العنصرية، وبثها، ويرى أن هؤلاء السياسيين من اليمين ركزوا على الخلاص قصير المدى، من دون أن يعيروا أي اهتمام بما يحدث من تشويه لصورة مواطنيهم المسلمين أو الذين ينحدرون من دول إسلامية، ويعتبر أن ما يطرحه في كتابه هذا بمثابة صرخة تحذير إلى اليمين واليسار، من أجل أن يتوحدوا لإحباط الكارثة القادمة، وهو ما لم يجده في 2015، بعد أحداث «شارلي إيبدو»، حيث أحكمت سياسة الخوف قبضتها على المجتمع، وزادت شيطنة الآخر، ما تركت آثاراً في العمل والحياة الاجتماعية، وباتت البلاد في حالة من الطوارئ الدائمة، ولم يختلف الأمر عند اليسار تحت قيادة فرانسوا هولاند ومع اليمين تحت قيادة نيكولا ساركوزي، حيث اللجوء إلى تجريد القومية الفرنسية واستخدامها كسلاح للتطهير القومي، مؤكداً أن التوظيف السياسي كان في أعلى مستوياته.
ويذكر أنه من خلال الإصرار على أن «فرنسا في حالة حرب»، بات الأمر بمثابة مسلّمة لا تحتاج إلى توضيح، والرئيس الفرنسي وقائد القوات المسلحة الفرنسية اتخذا بشكل دقيق خيارهما في 16 نوفمبر 2015، قبل لقاء البرلمانيين في فيرساي. ويشير إلى أن خطاب الرئيس الفرنسي ركز بشكل شامل على القضايا الأمنية، لكنه كان متهوراً، إذ غض النظر عن الأسباب، وبالتالي تجاهل الماضي، وكان لا يرى الحلول، ولا رؤية عن المستقبل. وجهة النظر الوحيدة التي طرحها هي الحرب المباشرة، ليست تلك التي على مسافات طويلة من البلاد، بل على الذين في المتناول، معلقاً «أن نكون من دون ذاكرة، فهذه نهاية ميتة». ويرى أن خوض الحرب المفتوحة مع تجاهل السياقات والأصول التي شكلت التهديد، هي استجابة قصيرة النظر وسوف تفشل في القريب.
ويعزو الكاتب ما يحصل إلى أن «الحدث العنيف الذي لم يسبق له مثيل، والذي بث فينا الرعب، الموجّه ضد مجتمع منفتح ومتنوع، كان ثمرة عقود من الأخطاء الاستراتيجية، من حروب أفغانستان والعراق إلى التسويات مع الأنظمة الديكتاتورية، من دون أن ننسى سوء التعامل مع القضية الفلسطينية».
جسور السلام
يسعى الكاتب من وراء مناقشاته مع مفكرين وكتّاب في الوسط الفرنسي واستشهاداته المتعددة بأقوال آخرين إلى الدفع لبناء جسور من السلام بين أبناء المجتمع، وعدم تدمير كل الروابط بينهم، ويستشهد بالقائد الاشتراكي الفرنسي جان جوريس الذي كان يعارض دخول بلاده الحرب العالمية الأولى، وكان يشتهر بمواقفه السلمية، حيث كان همّه تأمين المستقبل، فكان يمضي في آرائه بشكل علني، وقد اغتيل في 1914 بسبب تعليقاته وخطبه ومقالاته، ومن كلمات له: «أنتم تفكرون بالنصر، أما أنا فأفكر بالسلام الذي يعقبه… لا تكسروا كل الجسور، لأنه لا يزال علينا أن نعبر النهر. لا تدمروا المستقبل. حتى لو كان جرحاً عميقاً، دعوه نظيفاً، سوف يشفى، لكن لا تسمموه. دعونا نتخذ موقفاً من الكراهية».
كما يشير إلى الكاتب الفرنسي رومين رولاند الفائز بجائزة نوبل للآداب، الذي نشر في الحرب العالمية الأولى كتاباً بعنوان «فوق المعركة»، حيث جلب لنفسه انتقادات واسعة في الأوساط السياسية والأدبية والثقافية، إذ رفض فيه كل أشكال الدعم للحرب التي قادت المثقفين، الفرنسيين والألمان، إلى إنكار إنسانيتهم المشتركة، وإشاعة البربرية والهمجية، يقول عنه: «رولاند كان حينها واحداً من الأرواح النادرة التي تتخذ موقفاً ضد الكراهية». ويوضح أنه بعد انتهاء الحرب أصبح كتابه من بين الكتب التي كان الناس بحاجتها لرسم الطريق إلى المستقبل، ويستشهد بكلمات له من الصفحات الأولى: «وجدت نفسي في السنة الفائتة، غنياً جداً بالأعداء. عليّ أن أقول لهم: ربما يكرهونني، لكنهم لن يعلمونني الكراهية»، ومضى يحث القراء «للوقوف في وجه الكراهية التي تشكل خطراً مميتاً أكثر من الحرب». ويعلق الكاتب: «بعد قرن، في فترة أخرى، وبالمواجهة مع حروب مختلفة، هو الطلب ذاته الذي نحتاجه، وهو ما أسعى وأتطلع إليه في كتابي: ضرورة عدم الاستسلام للكراهية».
المراهنة على الخوف
في ختام عمله يعود الكاتب إلى ما بدأ به كتابه، ويذكر أنه في يوم الجمعة، الثالث عشر من نوفمبر 2015، كان المجتمع كله هدفاً للإرهاب: مجتمعنا، بلادنا فرنسا بكل تنوعها وتعددها، فرنسا اللقاءات والدماء المختلطة. كان هذا المجتمع المفتوح هو الذي سعت أفعال الإرهاب إلى إغلاقه، إلى إسكاته بالخوف، وإلى طمسه تحت الرعب. إنه هذا المجتمع الذي يجب أن ندافع عنه، لأجل حمايتنا. ويضيف: «يريد الإرهابيون أن يغلقوا انفتاح هذا المجتمع، ودفعه إلى الانكماش والتقوقع والانقسام، وأن يفقد طريقته في الحياة. إنها حياتنا الجمعية التي يريدون تحويلها إلى حرب أهلية ضد أنفسنا».
ويوضح أيضاً أنه مهما تكن السياقات والفترات الزمنية التي نكون فيها، فإن الإرهاب دائماً يراهن على الخوف. ليس فقط الخوف الذي ينشره في المجتمع، بل سياسة الخوف التي يثيرها في قمة الدولة، حيث يتم تحويل الديمقراطية إلى حالة من الطوارئ، وحرب لا نهاية لها، من دون جبهات أو حدود، من دون هدف استراتيجي، حرب من الردود والهجمات التي تغذي بعضها بعضاً، الأسباب والتأثيرات التي تمتزج ببعضها بعضاً من دون أن يكون لها آمال بنهاية سلمية.
ويشدد على أنه مهما يكن الأمر مؤلماً وقاسياً علينا، فلا بد من بذل الجهود في سبيل تعزيز العقلانية في مواجهة الإرهاب، إذ من الأفضل مواجهته وتجنب الوقوع في شباكه، والسير نحو عالم من الجهل يبثه الإرهاب لنشر الفوضى التي يأمل أن يحصدها ثمارها من خلال الغضب الذي يعتمل الصدور، موضحاً أنه يمكن النظر إلى تجربة الولايات المتحدة في الاستجابة لهجمات 11 سبتمبر وغزو العراق، حيث ولدت «داعش» من رحم الفوضى التي حصلت، وعلى أنقاض دولة مدنية، وجراح مجتمع انتهكت كرامته، فكلما زادت الفوضى، انتعش الإرهاب ووجد من يحتضن إيديولوجيته المسمومة.
ويتساءل: «هل يمكن أن نتعلم من هذه الأخطاء الكارثية أم أننا ماضون لتكرارها؟» مشيراً إلى أنه من الصعب دائماً طرح هذه الأسئلة القاسية في أحداث مؤلمة، إلا أنه يؤكد أن الشعب الفرنسي لن يكون قادراً على مقاومة أي شكل من التحدي الذي يفرضه الإرهاب، إذا لم يتحكم بردود أفعاله، وإذا ابتعد عن طرح أسئلة متعلقة بالسياسة الخارجية والتحالفات مع دول قمعية، وإذا لم يراقب الخطابات السياسية التي تتسم بطابع عنصري خصوصاً تجاه الإسلام، وجعله كبش فداء، فإن التفرقة وليس الوحدة هي مصيره، ومن شأنها أن تغذي الكراهية أكثر من طمأنة الشعب.
ويقول إنه «لمواجهة الإرهاب علينا أن نتحرك كمجتمع، أن نبني تماماً ما يريدون هدمه. لندافع عن بلادنا، وتنوعها القوس قزحي، علينا أن نبتعد عن جعل فئة ما كبش فداء في خدمة السياسات»، ويستشهد بالعديد من الشخصيات المسلمة التي خدمت فرنسا، حيث ساهمت في دفع الإرهاب عن المجتمع، وفي دعم الحياة العامة من خلال مشاركتها في كافة قطاعات المجتمع، حيث يرى أن قوة فرنسا وثروتها في هذا النسيج المتنوع.
ويختم بكلمات نترجمها: «في بريطانيا العظمى، عندما وقعت الهجمات عام 2005، التف المجتمع حول شعار ابتكره شاب على الإنترنت هو «لسنا خائفين». وفي إسبانيا، عند حدوث هجمات في 2004، اجتمع المجتمع الإسباني حول شعار الكفوف المفتوحة الممدودة، وغير المسلحة، ولكن مع تلك التي تمتلك عزيمة».
ويضيف: «لا. لسنا خائفين من شيء سوى من أنفسنا التي يجب أن ننير لها الدرب، ومن قياداتنا الفرنسية التي تكاد تضيعنا وتضللنا. يجب علينا أن ندافع، بشكل أقوى من أي وقت مضى، عن انفتاح المجتمع الذي يسعى القتلة إلى إغلاقه. وشعار هذا الرفض يمكن أن يكون يدين ممدودتين إلى الأعلى لاحتضان بعضنا بعضاً، يدين تتصافحان، وتترابطان».
نبذة عن المؤلف
** إيدوي بلينال، صحفي سياسي فرنسي حاصل على إشادات عالمية عديدة، ونال جائزة صحفية على عمل استقصائي له تحدى فيه أفعال الدولة الفرنسية. من مواليد 31 أغسطس 1952، قضى طفولته في المارتنيك، وشبابه في الجزائر، ودرس في معهد الدراسات السياسية في باريس. وكان مدير التحرير السابق لصحيفة «لوموند»، ومؤسس موقع صحفي استقصائي باسم «ميديا بارت»، يعالج فيه القضايا المتعلقة بالإسلاموفوبيا والصور النمطية عن المسلمين، وكذلك المسائل الإشكالية على الساحتين الأوروبية والغربية. له عدد من المؤلفات الصادرة باللغة الفرنسية في أبرز القضايا في الأوساط السياسية الفرنسية والعالمية ومنها: «الصراع لأجل صحافة حرة».