نحو بوصلة واقعية للثقافة
عبد اللطيف الزبيدي
أعجوبة العالم العربي في السنوات الأخيرة، هي أن الثقافة صارت في آخر قائمة الهموم. في المنطق المألوف، تُعدّ الثقافة الأرضية التي يقوم عليها بنيان الشعوب. بعبارة أخرى: انظر إلى أوضاع أيّ أمة، تنبئك ببنيتها الثقافية، بمفهومها للثقافة، بفكرها وبفلسفتها في الحياة.
ما يجب أن يتغير في العقل العربي العام، هو مفهوم الثقافة بالذات. معاذ الله أن يكون هذا عدم تقدير لمئات ألوف المثقفين. لا عيب فيهم غير أنهم بلا بوصلة. هم فرحون بما اختزنوا في أدمغتهم من الكتب، لكنهم ليسوا سوى أرشيفات، استطاعت الأنظمة على مر العقود أن تتزين بهم، ثم تضعهم على رفوف التهميش. هذه ذريعة جيدة لخلاصهم من المسؤولية. من حق الشعوب أيضاً أن تنظر إليهم كفئات تجيد الكلام ولا تنفع في النوائب.
خذ الأمور من مطلع القرن العشرين فصاعداً واسأل: ما هي الأفكار الرائدة التي استطاع العالم العربي البناء عليها، أو حتى أدخلها في أمخاخ الشعوب كمبادئ يجب إخراجها إلى حيّز العمل والتنفيذ؟ هنا ندرك أن الإلمام بالثقافة العالمية لا يشكل شيئاً يذكر في الثقافة البنيوية القادرة على تغيير واقع البلدان. معنى ذلك أن المثقف العربي سهر الليالي في تحصيل الآداب والمذاهب الفكرية والفلسفية، ولكنه لم يشق طريقاً إلى التفكير، إلى ربط مخزونه الثقافي بالواقع. من الضروري رسم صورة كاريكاتيرية لتقريب المهزلة إلى الأذهان: تخيّل مثقفاً متشبعاً بالحداثة، متورم الذهن بما بعد الحداثة، ولكنه عاجز عن رؤية محيطه المتخلّف. إذا أردت الحق، فإن هؤلاء ليسوا بعيدين من الحقيقة والواقع، فالنظام العربي سريالي السياسة، تجريدي الاقتصاد، لا معقول التنمية، بالتالي يجد المثقفون أنفسهم واقعيين في التعبير عن الحال والمآل، غير معنيين بالتغيير الثقافي، حتى وهم يرون التطرف والعنف ينهشان البلدان، ويأخذان مكانهم الأصيل، لأنهم نشؤوا في بيئة عربية طاردة للأفكار الرائدة، ترفض التنمية وتحكّم الماضي في الحاضر والمستقبل.
حين تجرّد الثقافة من فكر الحياة العامة وفلسفتها، وتجعلها مجرد ديكور على الرفوف، ما الفرق بين دماغ ثقافي محشو بنصوص قديمة، وآخر حشوه كتب حديثة. كلاهما ماسحة ضوئية لا تنتج فكراً له علاقة بمجرى الحياة، ولا تبعث على إقامة منارات للسالكين. ما قيمة الميراث القديم إذا لم تزرع بذوره الجيدة لينمو منها نبات الحاضر والمستقبل؟ ما ينمو قسراً هو السوس.
لزوم ما يلزم: النتيجة التفاؤلية: إذا صحّ أن الأسواق قادرة على إصلاح نفسها بنفسها، فإن الثقافة أقدر.
abuzzabaed@gmail.com