قضايا ودراسات

نساء وقطارات وروايات

يوسف أبولوز

ترتبط قراءة بعض الكتب بأماكن بعينها أو بمدن أو بأوقات قد تكون سعيدة، وقد تكون حزينة، وقد تقرأ كتاباً في طائرة أو في قطار، وعندما تعود إليه بعد سنوات تعود إليك الكثير من الذكريات «الخضراء»، وكأنك كنت البارحة فقط في مكان مرت عليه عشرات السنوات.
في رحلة قطار في العام 1982 من الدمام إلى الرياض في حوالي ست ساعات قرأت «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح، ويحق لهذه الرواية أن يطلق عليها بيضة الديك لهذا الكاتب الذي غزا اسمه الساحات الثقافية العربية منذ أن صدرت روايته هذه في العام 1966 في بيروت لتغطي بذلك على عشرات الكتاب في السودان، وأكثر من ذلك غطى اسم الطيب صالح حتى على شعراء بلاده عندما تحولت الرواية إلى مادة متداولة في النقد الأدبي في عواصم ثقافية مركزية خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين مثل بيروت، والقاهرة، وبغداد، ودمشق.
لم يظهر اسم الطيب صالح هكذا في ما يمكن أن يسمى العراء الأدبي إذا كانت العبارة صحيحة، بل ظهر في زمن عمالقة: نجيب محفوظ، جبرا إبراهيم جبرا، عبد الرحمن منيف وغيرهم من الكبار، غير أن خصوصية بل عالمية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي لم يستطع الطيب صالح أن يتجاوزها وضعت حتى السودان في دائرة الاهتمام الثقافي آنذاك، خصوصاً أن اسماً مرادفاً للطيب صالح هو محمد الفيتوري كان هو الآخر يجذب إلى ناحيته الأضواء بخصوصيته الشعرية الإفريقية.. العالمية هي الأخرى.
اكتب هذه المادة الآن بدافعين.. الدافع الأول: مناسبة احتفال «غوغل» بذكرى ميلاد الطيب صالح الذي رحل في العام 2009، ويوماً بعد يوم تزداد صورته ألقاً في الذاكرة الثقافية العربية، كما تتألق أيضاً رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في زمن روائي عربي بامتياز كثيف العناوين، وأيضاً، كثيف الجوائز الأدبية التي تذهب نحو فن الرواية.. والدافع الثاني هو القطار.. (زمن ومكان) قراءة الرواية.
تلك كانت أول مرة أركب فيها قطاراً، وكانت محطة انطلاقه من الدمام بالقرب من مبنى جريدة اليوم، وعندما أقول جريدة اليوم يعني ذلك الأصدقاء القدامى.. (سلاماً.. سلاماً..): محمد الدميني، مطلق العنزي، عتيق الخماس، محمد عبيد الحربي، عبد الرؤوف الغزال، وصالح العزاز.. هذا الأخير والأول في الوقت نفسه.. صاحب القلم الصحفي الرشيق، والكاميرا الأكثر رشاقة.
كان القطار يمر بالقرب من الجريدة بهديره الحديدي وصافرته أيضاً، أي إنها حالة شعرية بالنسبة لشاب في أول العشرين من عمره، وسوف تكون الرحلة زمناً آخر لقراءة تموجات رمل الصحراء واستعادة شعرائها الذين كانوا يسابقون الريح والخيول.
لم يكن سريعاً، بل أقرب في سيره إلى البطء، كأنما كان يمهل القارئ الشاب لأن ينهي الرواية قبل الوصول إلى الرياض، وهناك أيضاً (أصدقاء قدامى.. سلاماً.. سلاماً..) عبد الله الصيخان، سعد الدوسري، محمد جبر الحربي، ونسيم الصمادي.. وكانوا معاً.. يملأون الصفحات الثقافية السعودية آنذاك بالوهج والرفعة الثقافية والجمال.
القطارات. أحياناً، تشبه النساء: طويلات بطيئات، طويلات سريعات.. ومن الجميل، أيضاً، أن يقرأن الروايات.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى