قضايا ودراسات

نصفا التاريخ

خيري منصور

ستبقى الهوة التي يصعب ردمها بين المقول والمفعول على امتداد التاريخ، لكن المثقف والمؤرخ والمصلح والفيلسوف ليسوا رجال أقوال فقط، لأن الكلمة إذا قيلت في أوانها وسياقها لا تقل نفوذاً عن الفعل، وهذا ما اعترف به أباطرة منهم نابليون بونابرت حين جعل من الكلمة نصف التاريخ، والقسمة الحاسمة بين المقول والمفعول تزدهر في أزمنة يختل التوازن فيها بين الحلم والواقع، وبين الرغبة والقدرة على إشباعها، ومن قالوا ذات يوم إن الكلام بالمجان ولا ثمن له لم يكونوا على دراية بزمن يصبح فيه لكل كلمة ثمن من خلال الهواتف المحمولة.
وحين قال عميد الأدب العربي طه حسين إن من حق الناس أن يحصلوا على التعليم بالمجان كالماء والهواء، لم يخطر ببال العميد أن زمناً سيأتي يصبح فيه الهواء غالي الثمن من خلال التدفئة في الأماكن الباردة والتبريد في الأماكن الساخنة، وكذلك الماء!
وقد تتبدل الأزمنة، وتتغير الأجيال من خلال تعاقبها، لكن هناك ثوابت بشرية بدءاً من الغرائز والدوافع الفطرية لا تغادر مواقعها البدائية إلا من خلال تغيير الأسماء فقط.
فالحروب تتطور من حيث أدواتها وأساليبها وأسلحتها واستراتيجياتها، لكن دوافعها تبقى كما هي، فالإنسان يقاوم دفاعاً عن بقائه، وكذلك الحيوان والنبات، لهذا فإن للوردة أشواكاً تحرسها وللؤلؤة محارة قاسية تحميها وتخفيها، والتقليل من أهمية الكلام لحساب الأفعال غالباً ما يصدر عن أناس لا يفرقون بين كلمة مشحوذة كالسيف وبين كلمة داجنة، والأفعال ليس كلها تستحق الثناء لأنها خرجت عن مدار الكلام، ومنها جرائم وخطايا وحماقات، وحين نقرأ التاريخ بعيداً عن سياحة التسلية واستدراج النعاس نجد أن هناك من كلفتهم الكلمة حياتهم، لأنها قيلت في أوانها، وكان لها نفوذ يتجاوز الفعل المباشر.
وكما أن الأفعال لا تندرج كلها في خانة واحدة ومنها الصالح والطالح والخير والشرير، فإن الكلام أيضاً لا يصنف في خانة واحدة، لأن منه الحق والزور، والصدق والكذب، ويكفي أن نتذكر أمثولة من تاريخنا هي أن أشهر وربما أعظم شعرائنا وهو المتنبي قتله لسانه!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى