نكسة يونيو بعد نصف قرن
مصطفى الفقي
مازالت أصداؤها ماثلة أمامنا، وتظل آثارها جاثمة على صدورنا حين استدرجت «إسرائيل» الدول العربية المجاورة إلى حرب مدبرة انتهت بهزيمة للعرب، دفع فيها الجيش المصري ثمناً غالياً من رصيده التاريخي، إذ لم يتح له أن يدخل حرباً حقيقية بسبب ملابسات وظروف كانت قائمة في ذلك الوقت. لقد تصور العرب أن ما يحدث هو أقرب إلى المظاهرة السياسية منها إلى المواجهة العسكرية، فجرى استدراج الجيش المصري إلى مواجهة تستهدف تحطيم وضرب المشروع القومي الذي كان يبشر به ويقوده جمال عبد الناصر. ولا يمكن قراءة ما جرى عام 1967 دون أن ندرك الأبعاد التاريخية للضغوط التي تعرضت لها مصر عبر تاريخها الطويل والمنعطفات الصعبة التي مرت بها في فترات مختلفة، ولنكتشف بدون جهد كبير أن المشروع المصري النهضوي معرض دائماً لضربات خارجية بقصد تحجيم مصر وإعادتها إلى حجمها المطلوب، ويهمني هنا أن نتأمل الملاحظات الآتية:
أولًا: إنني أرى فاجعة الخامس من يونيو 1967 من منظور تاريخي متواصل لوحدة التاريخ المصري ككل، فقد تعرضت تلك الدولة العريقة لخبطات عبر العصور كلما شعر خصومها أو حتى جيرانها أنها توشك على التحليق إلى أعلى وهو أمر يزعج الجميع ويدق ناقوس خطر ويثير المخاوف لدى الأشقاء والأصدقاء على حد سواء! فمصر كانت وسوف تظل محط الأنظار ومركز الاهتمام فضلًا عن ضخامة عدد سكانها وقوة جيشها وعراقة تاريخها وتميز أهلها، وأنا أرى نكسة 1967 في هذا السياق، فالقضية ليست الصراع العربي – «الإسرائيلي» وحده ولكنها استهداف للدولة التي تمثل رأس الحربة في المنطقة على مدار التاريخ.
ثانياً: لا أنظر إلى هزيمة يونيو باعتبارها حدثاً عسكرياً ولكنني أراها من منظور سياسي بحت، حيث تبدو لي مواجهة حقيقية مع المشروع القومي الذي تبناه عبد الناصر، ورأى فيه الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل» بالطبع تهديداً لمصالحهم وتحريكاً للمنطقة العربية في اتجاه ثوري وطني وتحرري يزعج الطامعين فيها والمتطلعين إلى السيطرة عليها، وأنا أظن أن تراجع المشروع القومي الناصري قد بدأ بالضربة العسكرية «الإسرائيلية» التي غيرت موازين القوى وقلبت المعايير في المنطقة العربية بل وفي بقاع أخرى من العالم، وتأثرت بما جرى وبرزت ردود فعلها وفقاً لذلك، وليس ذلك غريباً على مصر فقد قام الغرب بتحجيم إمبراطورية محمد علي بموجب اتفاقية لندن عام 1840وهو ذاته الذي ضرب المشروع القومي عام 1967، وإن كان يتعين علينا أن نسجل هنا أنه رغم الهزيمة العسكرية فإن الصمود المصري والعربي عموماً قد غير الصورة وجعلنا أمام مقاومة باسلة تمثلت في حرب الاستنزاف التي تعتبر سجلًا رائعاً للشعب وللجيش في مصر، ويكفي أن نتذكر أن الجندي المصري الباسل قد خاض معركة (رأس العش) بعد أيام قليلة من هزيمة يونيو، وهو أيضاً الجندي المصري الذي أغرق المدمرة (إيلات) كاشفاً عن بسالته المعتادة امتداداًَ لتاريخه العريق وبطولاته المشهودة.
ثالثاً: لا أشك في أن مؤامرة 1967 كانت عقاباً لنظام الحكم في مصر وتأثيراته التي امتدت إلى العالمين العربي والإسلامي وإلى القارة الإفريقية بل ودول ما كان يسمى بالعالم الثالث، والذي يتابع أحداث السنوات السابقة يدرك بوضوح أن صوت الناصرية كان قد أصبح عالياً كما أن الزعيم العربي القومي قد خرج من حدود بلاده ليحارب في اليمن على غير إرادة الغرب الذي شعر بأن عبد الناصر يتحداه بسياساته ومواقفه وشعاراته الملتهبة، ويكفي أن نتأمل ما جرى في المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس المصري في 23 مايو 1967والذي يبدو واضحاً منه أنها مواجهة سياسية لا تتضمن توقعات عسكرية إذ كان هناك إحساس عام بأن الحرب لن تقوم وأن الأمر لا يعدو أن يكون مظاهرة سياسية لن تؤدي بالضرورة إلى انفجار كامل بالمنطقة، بل إن عبد الناصر كان قد قرر إيفاد نائبه زكريا محيي الدين إلى واشنطن يوم 5 يونيو ولكن القرار التآمري كان قد سبق كما أن العملية العسكرية كانت قد أحكمت، وهنا أسجل أن عبد الناصر لم يكن حاكماً نظرياً يحلق في (يوتوبيا) الأحلام السياسية، ولكنني أراه حاكماً (براغماتياً) يقرأ الواقع ويتصرف بمعطياته في حدود ما أتيح له من معلومات صادقة ورؤية واضحة.
رابعاً: لا شك في أن المشروع الإسلامي كان كامناً ينتهز الفرصة للانقضاض على السلطة بعد مواجهة دامية مع عبد الناصر خصوصاً في عامي 1954 و1965 كما أن الجماهير العربية كانت مهيئة لاستقباله إذ تصور الكثيرون أن الهزيمة جاءت عقاباً إلهياً للابتعاد عن الدين والدعوة إلى الاشتراكية والخروج على روح الإسلام من وجهة نظرهم فظهرت السيدة العذراء في سماء حي (الزيتون) بالقاهرة كما اختار عبد الناصر مناسبة دينية لأول ظهور له بعد النكسة مباشرة وأظن أن ذلك كان في مسجد السيدة زينب بالقاهرة، لقد تولد إحساس عام بضرورة اللجوء إلى الدين وتبني مشروع إسلامي شعبوي.
خامساً: مازلنا نرى آثار يونيو حولنا ولكننا ندرك أن التاريخ يتسع دائماً للانتصارات والانكسارات ويمتص نتائج الحروب ويحتوي الهزائم، كما أننا قد تعلمنا من التاريخ المصري أن الدولة عصية على السقوط مهما كانت التحديات والضغوط والمؤامرات.
سوف تظل نكسة يونيو تحولاً ضخماً في تاريخنا الحديث، ومازالت أصداؤها قابعة في الأذهان رغم مضي نصف قرن من الزمان!