هلا تذكَّرتِ يا طهران شكوانا؟
رشيد الخيُّون
ليس حريصاً مَن يريد العداء لإيران، وليس منصفاً مَن ينكر عليها جمال طبيعتها، وعلى شعبها التَّاريخ العريق في الثقافة والأدب والفن. كانت قبلة للسائحين والدَّارسين، لأهل العِراق خصوصاً، فالجوار يمتد لألف ومئتي كيلو متر، مِن أقصى السليمانية إلى أقصى البصرة. فأي عراقي يحب لعراقه الاستقرار والعيش الرَّغيد يريد لهذه المسافة الطويلة، من الحدود، أن تبقى خطوطاً ملتهبةً؟!
حتى بعد الحرب الطَّاحنة بين البلدين، فما إن مالت السِّياسة إلى الاعتدال، تبادلت الدولتان الوفود، وانقلب ما كان يبثه إعلام الدولتين مِن سموم، إلى تقديم المصالح، بعد أن وجد القادة الإيرانيون في إدامة الحرب انتحاراً، وبعد وفاة الخميني(1989)، الذي اعتبر موافقته بإحلال السَّلام جرعة سم، انتهى الحلم بدولة إسلامية ملحقة، بعد أن كان يراها مِن شبابيك الثَّورة قاب قوسين أو أدنى.
بعد (2003)، أعادت إيران حلم الخميني، فالأحزاب التي شغلت السَّاحة هي أحزابها، وكلما رفعت صورة المرشد بساحات بغداد زاد الغرور غروراً، حينها فتحت البوابة السورية لإدخال المقاتلين، ودخل مفجرو السفارات العراقية، والقائمون بأعمال إرهابية، نصرة لإيران خلال الحرب مع العراق، ليصبحوا قادة ومتنفذين.
اعتقدت إيران أن سفيرها (قمي) هو الحاكم بأمره ببغداد، لذا تجرأ أن يقرر مَن يكون رئيس وزراء ومَن لا يكون، حتى جاء قاسم سليماني ليكون له مكتب ومنزل. فتجرأ ساستها بإعلان ضم العراق إلى محور ممانعتها، وأن بغداد عاصمةً لإمبراطوريتهم، وتجرأ هدهد الولي الفقيه، علي أكبر ولايتي، وِمن داخل بغداد، أنه غير راغب بفوز هذه الجماعة أو تلك.
لم تكتف إيران بإدخال الميليشيات، وتوزيع السائرين في ركابها، من المعممين والأفندية، للهيمنة على الاقتصاد العراقي، عبر بنوك ومؤسسات وهمية وحوزات دينية، إنما أخذت بتفريخ الميليشيات، وتجنيد الشَّباب للحرب في الجبهات التي يُحددها جنرالات الحرس الثَّوري.
نعم، كل دول العالم تتدخل في الشأن العِراقي، الصغيرة والكبيرة منها، ولكن وجود إيران ليس تدخلاً وإنما استباحة، اتضح ذلك مِن كثرة الخطباء الذين طالبوا بتعويض إيران عن خسائر الحرب، حتى توهمتُ أن مسجد «براثا» مثلاً يقع بطهران وليس ببغداد. وبالهيمنة الإيرانية صار خادم الحسينية محافظاً، والعامل في مقر حزب أيام المعارضة مدير إدارة رئاسة الوزراء، وصاحب الدُّكان وزيراً للمال، وبائع الحلويات مسؤولاً عن الأمن، وكل هذه الشخصيات خطوط حمر عند إيران، ناهيك عن تكاثر مكاتب دعاة ولاية الفقيه، ولكي تُحفظ هذه المصالح، راح خامنئي يحث كل مسؤول عراقي يزوره على تقوية الحشد الشَّعبي، لأنه مشروع حرس ثوري، فلا ثقة عنده بجيش يُعرف بالجيش العراقي.
إلا أن خمسة عشر عاماً، من وجود المارد الإيراني وبنموذجه المتغطرس؛ لم تحتسب إيران للغضب العراقي حساباً، وهو المعادل للغضب الإيراني الذي أتى بالخميني حاكماً. فصارت المصالح الإيرانية، ورموزها السفارة والقنصليات، هدفاً، لأنها في أذهان الغاضبين رمز لدولة محتلة تحتمي الأحزاب والشَّخصيات الفاسدة، حتى صار الاعتقاد راسخاً أنه يوم تغير الأحوال بإيران ستختفي هذه الجماعات. كان حرق القنصلية بالبصرة مفاجأة صادمة لإيران، وذلك لكثرة الأحزاب والمراكز والعمائم التي تمتلكها داخل العراق. إنه فعل غير متوقع لها، ومَن يتهم الغاضبين بأنهم «دواعش»، فليرجع إلى الملفات التي كُشف عنها مؤخراً، عن علاقة إيران برجال «القاعدة» والجماعات الإرهابية. إنها ملفات أسامة بن لادن(قُتل2011).
يُذكر صراخ المسؤولين الإيرانيين على أثر تدمير قنصليتهم بالبصرة وحرق العلم الإيراني، بعد رفع اسم الجلالة منه، بصراخ باريس عندما احتلتها ألمانيا، التي نست أنها احتلت ودمرت بلداناً وشعوب. احتلت دمشق1920، ثم احتلت ألمانيا باريس1940. فالتقط الشَّاعر السوري محمد سليمان الأحمد المعروف ببدوي الجبل(ت1981) المفارقة، فقال: «يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا/رقّ الحديد وما رقّوا لبلوانا/خلّ العتاب دموعاً لا غناء بها/ وعاتب القوم أشلاء ونيرانا/سمعتُ باريس تشكو زهو فاتحها/هلاّ تذكّرتِ يا باريس شكوانا»(الديوان، قصيدة أني لأشمتُ).
أقول: عندما ناشد النَّجفي محمد بحر العلوم(ت2015) مسؤولاً إيرانياً كبيراً للكف عن إدارة العنف بالنَّجف والعراق، العام 2004، تحت غطاء المقاومة ومِن قِبل رجلها أبي مهدي المهندس وآخرين، أجابه المسؤول: «لا يهمني عراق أنا يهمني نظام جمهوري» (أمالي طالب الرِّفاعي). لسنا مع حرق القنصلية الإيرانية بالبصرة، إنما مع علاقات طيبة متكافئة بين البلدين، لكن العراقيين تعبوا مِن الشَّكوى ولم يُسمعوا، فمِن حقهم القول بلا شماتة: «هلاَّ تذكَّرتِ يا طهران شكوانا»؟!
* نقلا عن “الاتحاد”