هل تُغيب وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا الاجتماعية؟
علي الخشيبان
تحول العالم اليوم من التركيز على النشاط الاجتماعي إلى بروز الفردانية وهي محور الأزمة العالمية التي تواجهها مجتمعاتنا التي تعتبر القيم المجتمعية عنصراً أساسياً في تكويناتها..
لنبدأ بالسؤال الأهم حول وسائل التواصل الاجتماعي هل هي نعمة أم نقمة علينا وعلى البشرية، أم أنها جزء من السياق الحضاري الذي اختار زمننا لنكون نحن وغيرنا من شعوب الأرض هم من يساهم في نقل مقومات الحضارة البشرية وتطوراتها بين القرون؟ من أكبر الأخطاء مجتمعياً الاعتقاد بأنه يمكن تحجيم التطور البشري في المجال التقني لمجرد أن المجتمعات أصبحت غير قادرة على استيعاب مساحاته الواسعة من التأثير في كل شيء تقريباً، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التحول الكبير في الحياة البشرية التي أحدثتها التقنية لن تكون شيئاً مستساغاً للثقافات الإنسانية، لقد أصبحت البشرية في كفة والتقنية في كفة أخرى وأصبح الإنسان بلا تقنية لا يعني شيئاً لنفسه ولا للعالم من حوله.
الأزمة الأكبر هي أن وسائل التواصل الاجتماعي التي يبدو لنا انها يمكن توحد العالم وثقافته تحولت إلى أكبر مصدر لبحث الاختلافات بين الثقافات والبشر والسلوك، فوسائل التواصل الاجتماعي هي أكبر مكرس حديث للفردانية وتقريباً كل منتجات وسائل التواصل الاجتماعي تكرس الفردانية وتقرنها بالحرية وخاصة في الإرث الغربي الرأسمالي، والبشرية كمفهوم ثقافي تتجه بلا شك إلى تكريس الفردانية دون الاهتمام بالمعايير التقليدية التي تكرس المجتمعية كالأديان والقومية والطائفية والقبلية.. الخ، لقد تحول العالم اليوم من التركيز على النشاط الاجتماعي إلى بروز الفردانية وهي محور الأزمة العالمية التي تواجهها مجتمعاتنا التي تعتبر القيم المجتمعية عنصراً أساسياً في تكويناتها وتعتمد كثيراً على الاجتماعي في أبنيتها السياسية والثقافية والسلوكية والأخلاقية ولعل السؤال الآخر يدور حول دخول الإنسانية عصر الفردانية الحقيقي حيث سيشكل الفرد المحور الأكثر أهمية في الثقافات الإنسانية والعولمة.
في مجتمعاتنا الشرقية هناك ثلاث قوى رئيسة أصبحت مهددة من قبل التقنية التي أنتجت وسائل التواصل الاجتماعي هذه القوى: البنية الاجتماعية التقليدية بما فيها من ترابط وقيم وأعراف وتقاليد، ثانياً: المرجعية العقدية للشعوب، فالفضاء التقني يكثف من وجود الاختلافات العقدية ويناقش هذه الاختلافات عبر كم هائل من المعلومات التي تملأ الكون وفي ذات الوقت تنشط التقنية مسارين لا ثالث لهما إما تعميق الاعتقاد بملكية الحق والاستماتة من أجله أو قبول الاختلافات مما يساهم في ضعف المرجعية العقدية للشعوب، ثالثاً: تكريس التقنية على الفردانية يشكل أكبر المؤثرات على الفكرة الاجتماعية، ولذلك سيصبح كل شيء في هذا الكون فرداني النجاح والتفوق والإنجاز والثروة والتأثير، وهنا سيخرج الأفراد من كونهم جزءًا من المجتمعات إلى كونهم أفراداً تدور كل معطيات الحياة حولهم.
يقول الدكتور الأميركي (جونثان هديت) عن وسائل التواصل الاجتماعي “إنها عملت على تضخيم العبث وتسليحه” وهذه المقولة تركز فعلياً على حقيقة قاسية، فعلى البشرية الاستعداد لمواجهتها والتي تتمثل في أنه كلما توسعت البشرية في الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي كلما ساهم ذلك في نقص الاعتماد على القيم المشتركة بين البشر، بغض النظر عن نوعها سواء كانت عقدية أو قومية أو قبلية او حتى أخلاقية مشتركة، وهذا يعني بكل وضوح أن أهم المؤشرات التي يجب أن نتنبه لها هي القدرة الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي على الاستقطاب وفرض ثلاثة نماذج صارمة يصعب تغييرها من البشر، أفراد مؤثرون، أفراد متأثرون، أفراد ثائرون على النموذج الأول والثاني.
تنامي التأثير لوسائل التواصل الاجتماعي فاجأ المجتمعات بأن هناك من يتجاوز القيم والتقاليد بلا قلق حيث يعتبر ذلك جزءًا من مساحته الفردية التي أصبحت غير مسؤولة عن تأثيراتها على المجتمع، فوسائل التواصل الاجتماعي بلا شك هي إعلان عالمي قادم “لموت المجتمعات والمجتمعية” بالطريقة التقليدية التي نعرفها، فالمعرفة والمعلومات والثورة الرقمية هي أحد أهم العوامل التي ساهمت بظهور الشيخوخة على المفهوم التقليدي للمجتمعات، التي تتعرض بكل وضوح إلى تآكل شديد في مقوماتها.
مجتمعاتنا الشرقية والخليجية بشكل دقيق أمام تحد كبير حيث إن وسائل التواصل الاجتماعي هي من كسر الحواجز التي اعتدنا عليها وسهلت تلك الوسائل القفز الميسر على الأخلاق وسهلت حتى العنف وتجاوز التقاليد وأربكت الحقائق بشكل فلسفي وفكري، فمساحات الاعتقاد بالحقيقة وملكيتها بين البشر سقط بمجرد أنها أصبحت على خط إنتاج وسائل التواصل الاجتماعي المعلوماتي، لقد كنا نحتفظ بحقائقنا لوحدنا ونتداولها بيننا وفي محيطنا وندافع عنها ولا نتشاركها مع أحد إلا في إطار ضيق، لكن اليوم أصبح العالم كله يتشارك الحقائق بشكل مربك لتلك الحقائق وتداخلها وهنا ولدت أزمة صمود الحقائق وقدرتها على المقاومة.
* نقلا عن ” الرياض “