هل رأيت باباً يبكي؟
كان الشاعر عبد الوهاب البياتي لا يخفي قلقه على مكتبته في بغداد بعدما أخذته منافيه الاختيارية والقسرية إلى الكثير من عواصم العالم.. آخرها دمشق؛ حيث توفي هناك، وأوصى بأن يدفن بالقرب من ضريح أحد كبار المتصوفة.. وهو الذي كان ينطوي في داخله على شيء من التصوف، وعندما كان يتحدث عن مكتبته يلوح في وجهه طيف من الأسى يخبئه خلف غلالة من الدموع.
أينما حلت المرأة في بيت جديد.. أول ما تفعله القيام بزراعة ما تيسر لها من أرض: زهور عطرية، أو تلك النبتة التي تسمى «مكنسة الجنة» والياسمين الذي ينشر أريجه الأبيض في المساء، أما الشعراء إذا ما حظي الواحد منهم ببيت (..ويا له من حلم فردوسي)، فأول ما يفعله تكوين مكتبة. لا يهم مكانها حتى لو كانت على سطح البيت تحت قبة قرميدية بأدراج من خشب البلوط بالقرب من أدراج الحمام الزاجل وتحت عريشة من نباتات دائمة الخضرة.. كالأطفال.
المكتبة شقيقة البيت الصغرى.. تكبر فيها الكتب، وإلى جوارها يكبر أطفال العائلة، وكل كتاب جديد يضاف إلى أدراج جديدة.. هو ضيف دائم الإقامة.
أحياناً تفيض الكتب على سعة البيت إذا كان صغيراً، فتهاجر إلى الظلال الباردة للحدائق الصغيرة، وأحياناً تهرب مختبئة تحت الأسرّة والطاولات، وبعض الكتّاب العرب؛ بل أكثرهم، إذا ضاق عليه الزمن.. يلجأ إلى بيع ما يمكن بيعه من هذه الثروة الورقية غير القابلة للسيولة المادية.. كأنه يبيع واحداً من أولاده.
أكتب إليك مصدوماً مما قرأته في تقرير أعده الشاعر والصحفي محمد عريقات وجاء فيه أنه وجد كتباً لبعض كبار الكتّاب العرب الذين طواهم الموت، وقد تصرف ورثة هؤلاء الكتّاب بمكتبات آبائهم كما يفعلون بالثياب المستعملة عندما يتخلصون منها بأخذها إلى الأرصفة، أو في أحسن الحالات بيعها بأثمان أقل من بخسة.. أما ما هو أسوأ من ذلك فهو ما جرى لمكتبة الأديب عباس محمود العقاد.. «..فرط بها الورثة بعد وفاته بأن ذهبوا بها إلى مكب نفايات مع بقية أثاث بيته..».
ورثة من هذا النوع.. إذا كانت القصة حقيقية هل هم حقاً ورثة أم قتلة؟؟ فإلقاء كتاب في مكب نفايات لا يختلف عن إلقاء طفل رضيع على رصيف.
البيوت تموت إذا غادرها ساكنوها، وكذلك المكتبات.. و«بأم عيني» كما يقولون رأيت مكتبات تركها أهلها لأسباب عدة مثل السفر مثلاً.. أو النفي، أو الهجرة، فأخذت مع الأيام تذبل، بل، والأغرب من ذلك أنها تصغر: الكتب الكبيرة المجلدة تبدو وكأنها هزلت وأصبحت هياكل ورقية، والأرفف تبدو جامدة، باردة، حيادية، وصامتة مثل أجداث في مقبرة مهجورة.
المكتبات، أيضاً، دول وشعوب وناس من ورق وحكايات، وإذا أغلقت باب مكتبة لأنك لن تعود إليها.. فأول ما يبكي.. يبكي الباب.. وما أصعب أن تبكي الأبواب.
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.comOriginal Article