مقالات عامة

هل ما تزال الولايات المتحدة القوة الأعظم؟

د. غسان العزي

منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، تنتشر التحليلات والتنبؤات عن أفول نجم «الامبراطورية الأمريكية» ونهايتها الوشيكة، في مقابل سطوع نجم قوى منافسة لها، كروسيا والصين، وبزوغ قوى دولية صاعدة أو ما يسمى بالاقتصادات الناشئة.
والحقيقة أن هفوات ترامب المتكررة وسياساته المتأرجحة، والأخبار التي تنتشر حول حياته العاطفية والمالية، وتخبط إدارته، والاستقالات المتتالية في صفوفها، تضفي مصداقية على الأطروحة القائلة إن الولايات المتحدة دخلت في مسار انحداري لا رجعة فيه، وإن وضعيتها كقوة عظمى مهيمنة على النظام الدولي بدأت بالتفسخ.
لكن بعيداً عن الأحكام المتسرعة ينبغي عدم الاستخفاف بحيوية الولايات المتحدة، وعراقة مؤسساتها الديمقراطية وقدرتها على التكيف مع المتغيرات.
فالقوة الأمريكية تقف على دعائم اقتصادية وعسكرية وعلمية وتكنولوجية، تسمح لها بالعمل على مسارح الكون في مجالات متنوعة، لذلك فهي قوة عالمية شاملة.
اقتصادياً، الناتج الإجمالي الداخلي الأمريكي، هو الأعلى في العالم، ويعادل مرتين ونصف نظيره الصيني، على الرغم من أن الصين هي القوة الاقتصادية الثانية في العالم (وقد تغدو الأولى في غضون العام 2020 بحسب توقعات البنك الدولي)، وثلاثة أضعاف ونصف نظيره الياباني (الثالث في العالم).
ويسود التفاؤل في أوساط رجال الأعمال الذين يتوقعون استحداث مئات الآلاف من فرص العمل عما قريب. في المقابل تتسع هوة التفاوت بين الأغنياء والفقراء، وهناك قسم من الطبقة الوسطى يغادرها إلى صفوف الطبقات المعوزة.
وفي مجال «القوة الصلبة» وتحديداً الجانب العسكري منها، ما تزال الولايات المتحدة في طليعة دول العالم، على الرغم مما تحرزه روسيا والصين من تقدم حثيث في هذا المجال. قواعدها العسكرية تنتشر في أصقاع الأرض، وهي قوة متحركة بفضل أساطيلها وقواتها البحرية والجوية الخارقة. وهي الوحيدة القادرة على التدخل في أي مكان في العالم وبسرعة فائقة، والقادرة على قيادة حربين كبيرتين في مكانين متباعدين في العالم، في الوقت نفسه.
وفي مجال «القوة الناعمة» ما تزال الولايات المتحدة في قمة التفوق التكنولوجي والعلمي، فقد استحوذ الأمريكيون على 260 جائزة لنوبل، منها 70 لأساتذة وباحثين من جامعة هارفرد وحدها، التي تبلغ ميزانيتها السنوية أكثر من أربعة مليارات دولار، ورصيدها أكثر من 26 مليار دولار. أما شركات جوجل و«فيسبوك» و«آبل» و«أمازون»، فتحقق أرباحاً سنوياً قدرها ثمانين مليار دولار، في وقت يبلغ حجم أعمالها 500 مليار دولار، ورأسمالها أكثر من ألفي مليار دولار.
إن سياسة ترامب الحالية التي تميل إلى الانكفاء الدولي، وبعض من الانعزالية ليست غريبة عن التاريخ الأمريكي، فقد انتظرت الولايات المتحدة عام 1898، وحرب كوبا ضد إسبانيا، كي تبدأ بالتطلع إلى الخارج. ولم تشارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا متأخرة وبعد تردد: في أبريل/نيسان في الحالة الأولى، وفي ديسمبر/كانون الأول 1941 في الحالة الثانية، بعد الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربور، ودورها الحاسم في الحرب العالمية الثانية، ثم انقسام العالم إلى معسكرين أيديولوجيين جعلاها على رأس أحدهما، قبل أن تأتي نهاية القطبية الثنائية في عام 1991، لتجعلها القوة الأعظم في العالم.
لكن للعملة وجهها الآخر. فعلى الرغم من قوتها العسكرية الهائلة، هزمت الولايات المتحدة في معظم حروبها أو على الأقل فإنها غالباً ما منيت بهزائم سياسية، جراء حروبها العسكرية على الرغم من انتصارها فيها.
وهي تعاني في الداخل بنية تحتية مهترئة، ونظاماً صحياً ضعيفاً، وتفككاً مجتمعياً، وانقساماً بين جماعات إثنية ولغوية وغيرها، وقد دق صموئيل هانتنجتون جرس الإنذار في كتابه الصادر عام 2004 (من نحن؟)، ناهيك عن السلاح المتفلت الذي يقتل المئات في كل عام (وآخرها جريمة المدرسة الثانوية في فلوريدا، حيث قتل طالب 17 شخصاً، وكالمعتاد قيل إنه مختل عقلياً)، وانتشار واسع للمخدرات والعنصرية، وغيرها من الآفات المجتمعية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المقارنة مع القوى العظمى المنافسة، التي تتخبط هي الأخرى في حبائل مشكلات داخلية مستعصية، تذهب في مصلحة الولايات المتحدة التي ما تزال القوة الأعظم، في نظام دولي ينزع أكثر فأكثر إلى التعددية، على الرغم من كل التقدم الذي يحرزه منافسوها عليها في غير مجال.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى