وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت مفاهيم الديمقراطية
وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت مفاهيم الديمقراطية
من خلال سلسلة الدراسات الميدانية ورصد اتجاهات الرأي العام التي تعكسها استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي يخلص المؤلفون الأربعة لهذا الكتاب إلى أن الوسائل المذكورة أدت إلى تغيير مفاهيم الديمقراطية، ومن ثم ممارساتها، إلى حيث أصبحت هذه الممارسة نهباً لآفات الثرثرة والتكرار والتبسيط المخّل إلى درجة التسطح، وهو ما يهدد – في تصور مؤلفي الكتاب.
– بإصابة الممارسة الديمقراطية، ومن ثم المشاركة الجماهيرية، بآفة الفوضوية في الفكر والتشتت والتخبط في الرأي وفي السلوك العام. ويحذّر الكتاب من النزول بالأفكار السياسية والطروحات والممارسات الديمقراطية من مستوى الممارسة الراشدة والمسؤولة إلى وهدة التسطيح والشخصنة وخلل التبسيط.
أكثر من خمسين عاماً باتت تفصل بين التاريخين، وبالتحديد من منتصف الستينات وحتى هذه الأيام الاستهلالية من العام الجديد.
عند الموعد الاول تسامع عالم تلك الحقبة باسم البروفيسور مارشال ماكلوهان (1911- 1980) الذي يعد واحداً من الآباء المؤسسين، كما قد نصفه، لتيار الاعلام الالكتروني وخاصة من خلال الدراسات التي عكف عليها، وفي طليعتها كتابه بعنوان فهم الوسائل الإعلامية، الذي بشّر فيه بالمقولة التالية:
الوسيلة هي الرسالة، بمعنى أنه بصرف النظر عن مضمون رسالتك الإعلامية، فإن هذه الرسالة تكتسب تأثيرها عند جمهور المستقبلين من واقع نوعية الوسيلة الاعلامية التي تنقلها إلى تلك الجموع: ما بين الراديو ثم التلفاز ومن بعدهما بالطبع وسائل الاتصال الالكتروني عبر الحاسوب ومشتقاته في زماننا الذي لم يكن في حسبان البروفيسور ماكلوهان بطبيعة الحال.
أما الموعد الثاني في سياقنا الراهن فهو مساء الخميس 12 يناير الحالي، وقد شهد آخر تغريدة سجلها على التويتر الرئيس الأميركي أوباما، وتابَعها كما ذكَرتْ دوائر البيت الابيض نحو 80 مليون متابع، خاصة وقد جاءت على شكل تغريدة الوداع بعد 8 سنوات أمضاها الرئيس المغرِّد في سدّة الرئاسة الأميركية.
والدرس المستفاد من التاريخين المذكورين أعلاه يشير إلى أن زماننا الحالي أصبح مرهوناً بما أصبحت تنقله وتتداوله وتؤثر به ميديا التواصل الحالية ولدرجة تصل إلى حالة البلبلة أو التشوش أو الاضطراب الفكري والسلوكي في بعض الاحوال.
هذه الظاهرة هي التي شغلت فريقاً رباعياً من كبار الباحثين، كان على رأسهم الدكتورة البريطانية هيلين مارغتس أستاذة علم المجتمع والانترنت في جامعة اكسفورد، وكان أن ألفوا كتابهم الذي نلقي عليه الضوء في هذه السطور تحت العنوان التالي: البلبلة السياسية: كيف تعمل وسائل الاتصال الاجتماعي على صياغة الفعل الجماعي.
ثمانية فصول
كتابنا يتألف من 8 فصول لا يتردد أولها في التطرق إلى ما يوصف بأنه الحالة الرقمية التي آلت إليها أنماط السلوك الجماعي في لحظتنا الراهنة. أما الفصل الثامن- الاخير فيحمل عنواناً لا تخفى دلالته وهو: من الاضطراب السياسي إلى فوضوية التعددية.
ولعل أهم، وربما أخطر، ما يسجله هذا الكتاب يتمثل في حقيقة أن: وسائل الاتصال الاجتماعي، وعلى رأسها بالطبع ميديا التويتر تسببت بتغيير مفهوم الديمقراطية، فبينما كانت الممارسة الديمقراطية تنصرف عبر العصور إلى حيث تشمل الوعي بما يدور في المجتمع وتأكيد شعور المواطنة وإقرار حقوق الإنسان وتفعيل حسّ ومبادرة المشاركة الإيجابية في قضايا الشأن العام، إذا بوسائل الإعلام الالكترونية، فضلا عن الرقمية.
وقد باتت تدعو الناس – الأفراد العاديين- إلى أن يكشفوا عن كل ما يحيط بحياتهم اليومية وسلوكياتهم الفردية، والحميمة أحياناً، فإذا بهم وقد سجلوا ودوّنوا وتبادلوا الرغبات والأمنيات وتقاسموا عمليات التغريد، وإعادة التغريد والمتابعة والتقصي والتحميل والتفريغ والرؤى. وإذا بهذه الحصيلة المنقولة عبر الميديا الجديدة.
وقد وصلت بعمليات التشارك إلى ذروة الحشد والتعبئة ومنها ما يسلك سبيل القصد والاستقامة، ولكن منها ما يحيد عن الطريق إلى حيث الاتهامات والابتذال والسباب والتشهير في كثير من الأحيان.
من هنا يذهب مؤلفو هذا الكتاب إلى القول: أن نمط التعددية الناشئ عن وسائل الاتصال الاجتماعي إياها، لم يعد يشكل نموذج النهج الديمقراطي القويم أو المطلوب، بقدر ما أصبح نهجاً يفتقر إلى الاتزان وحسن الترتيب وتعوزه الرؤية المنظمة التي كان ينطلق منها مفكرو ودعاة وممارسو الديمقراطية.
وبالتالي يكاد هذا النمط المستجد من حكاية التويتر وشركاه يُسلم إلى شكل فوضوي، كما يؤكد المؤلفون، من أشكال العمل السياسي، وهو ما بات يؤثر سلباً بطبيعة الحال على ترشيد عمليات الاختيار للمرشحين والنواب الممثلين وعلى المشاركة السياسية تستوي في ذلك أحوال الأفراد والجماعات.
عن «الربيع العربي» وآخرين
في هذا السياق بالذات، يعمد مؤلفو كتابنا إلى التوقف ملياً بالتأمل وبالتحليل عند نماذج واقعية شهدتها السنوات القليلة الأخيرة.
وكل نموذج منها يعكس الأثر الذي أحدثته ظاهرة التوسع، إلى حد الغلّو والانهماك والانغماس في استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي الرقمية، بل واعتبارها المرجعية الأولى في تبادل الآراء وعرض المنطلقات وتعبئة الحشود الجماهيرية. أما الأمثلة التي يسوقها الباحثون فهي مستقاة من حالة حشود ما يسمى «الربيع العربي» في مصر.
ومظاهرات ساحة جيزي في تركيا، ثم جموع البرازيل التي احتشدت وأشعلت حالة من التمرد قبل مباريات كأس العالم في عام 2014، وكلها تصفها فصول الكتاب بأنها احتجاجات جماهيرية مدفوعة بفعل وسائل الاتصال الاجتماعي.
ويخلص المؤلفون أيضاً إلى التنبيه بأن من واجب النظم الحاكمة أن تتابع المسارات التي تنتهجها وسائل التواصل آنفة الذكر.
أربعة من الباحثين هم بيتر جون أستاذ علم السياسة بجامعة لندن، وسكوت هيل الاختصاصي في علم البيانات الالكترونية، وطه ياسري الباحث بمعهد اكسفورد، وترأس هذا الفريق البروفيسور هيلين مارغتس مديرة معهد اكسفورد لشبكة الانترنت الالكترونية: البالغة من العمر 56 سنة، وقد درست هذه الباحثة البريطانية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
وحصلت على الدكتوراه عام 1996 في موضوع تحوّل الحكومة المركزية في أميركا وانجلترا إلى اتباع نهج الحوسبة الالكترونية في مجال صنع السياسة واستخدام تكنولوجيا المعلومات.
شخصية غرينسبان حفلت بملامح الشغف الفني
في عام 1959، جلس الاقتصادي الشاب البالغ من العمر وقتها 33 عاماً مشاركاً في الاجتماع الذي عقدته الجمعية الاحصائية الأميركية. يومها فوجئ المجتمعون به وقد وقف محذراً من ترك الحبل على الغارب لصالح دوائر الأسواق المالية، ومنبهاً إلى ضرورة أن تأخذ البنوك المركزية حذرها وتعمل باستمرار على ضبط مسيرة تلك الأسواق ورصد ما قد تتخذه من إجراءات.
وقبل أن يفيق الاحصائيون المشاركون من دهشتهم أضاف الاقتصادي الشاب قائلا: لقد حدث هذا التراخي في عقد العشرينات الماضي، وانظروا إلى ما حدث بعد ذلك، بدأت الثلاثينات كما تعلمون بكارثة أصابت اقتصادنا الأميركي ومازالت تحمل اسم الكساد العظيم (بمعنى الخطير- الفظيع أو المريع).
تلك كانت الافتتاحية التي شاء مؤلفه سباستيان مالابي أن يصّدر بها كتابه الذي وضعه مؤخراً عن ألان غرينسبان المسؤول الذي شغل، بشكل فريد، منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ( وهو نظير البنك المركزي في شتى مواقع العالم) طيلة 19 سنة على مدار الفترة 1987- 2007 وهي أطول فترة لشاغل هذا المنصب المحوري في الإدارة الأميركية.
عنوان كتابنا عن هذا الاقتصادي الشاب الذي ارتقى في أميركا إلى أعلى منصب حكومي في مجال المال والاقتصاد هو: الرجل الذي كان يعرف حياة وزمن ألان غرينسبان.
يستهل مؤلف الكتاب سباستيان مالابي– وهو الكاتب الاختصاصي في قضايا الاقتصاد والسياسة والعولمة سطور هذا الكتاب موضحاً أن نهج غرينسبان في إدارة شؤون المال والاقتصاد في أميركا ظل يتمحور حول فكرة أساسية هي أن الافراط أو المبالغة في الإنفاق والإسراف والاستهلاك هي الطريق الخطر الذي يفضي إلى المشكلات، إن لم تكن الكوارث الاقتصادية.
جوانب إنسانية حميمة
ولأن الكتاب معني بشخصية هذا المسؤول، فإن القارئ لا يملك سوى تأمل الجانب الطريف، أو هو الجانب الإنساني الحميم كما قد نصفه، من حياة الشخص موضوع هذا الكتاب. صحيح أن غرينسبان الشاب نشأ في بيئة متواضعة، وصحيح أنه درس الاقتصاد في جامعة نيويورك، إلا أنه لم يكن يهيئ نفسه كي يعمل في مجال المحاسبة أو دنيا المال أو عالم الاقتصاد.
كان الفتى ألان غرينسبان يعّد نفسه كي يعمل عازفاً محترفاً للموسيقى (!) وبالفعل أجاد العزف على آلة الساكسفون والكلارينت. وقبل أن تجرفه غوايات الاوركسترا، سارع إلى تسجيل رسالة لنيل الدكتوراه في جامعة كولومبيا. إلا أن غواية الكسب المضمون دفعت به شريكاً في أحد بيوت المشورة الاقتصادية مما أتاح له إلقاء محاضرات في هذا المجال.
وهو ما اجتذب الأنظار إلى أفكاره وخاصة من جانب معاوني الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، لكن شهرته الكبرى بدأت عندما ذاعت أخبار قراره باستخدام أول حاسوب إلكتروني في عمليات مكتب الاستشارات الذي كان يتولى إدارته.
بعدها تولى عدة مناصب عليا في إدارتي جيرالد فورد ثم رونالد ريغان، ثم صعد نجمه خلال السنوات التي شهدت حالة من اليسر الاقتصادي والمالي خلال ولاية بيل كلينتون في عقد التسعينات من القرن العشرين.
وبفضل مكانته وسنوات خدمته الطويلة رئيساً لمؤسسة الاحتياطي الفيدرالي التي تتمحور مسؤولياتها حول قضايا الدولار الأميركي سعراً ومكانةً وتأثيراً على اقتصاديات وأسواق العالم، خاصة وأن كلينتون عمد إلى إعطاء حرية التصرف لهذا المعاون الاقتصادي الذي كان يعرف بالضبط فضيلة التذرع بالصمت بعيداً عن الثرثرة أو التوسع في الإدلاء بالتصريحات، وهو ما أدى كما يوضح مؤلف هذا الكتاب أيضاً، إلى أن ذاعت سمعة غرينسبان على أنه الشخصية التي لا تقبل المساس بها.
الحماية من المحافظين
هذه السمعة الايجابية للفرد- محور كتابنا- وللمؤسسة التي كان يديرها، كانت أقرب إلى طوق الحماية لكلا الطرفين، الفرد والمؤسسة من أن تمس أياً منهما غوائل المحافظين الجدد الذين استندت إليهم إدارة الرئيس جورﭺ بوش- الابن التي تسلمت مقاليد الدولة الأميركية في مطلع القرن الحادي والعشرين.
كما نلاحظ على امتداد فصول الكتاب كيف يتوقف المؤلف ملياً عند الجوانب السياسية من شخصية المسؤول الاقتصادي الذي يتابع المؤلف سيرته وأعماله عبر تلك الفصول، وكأنها إشارة من جانب سباستيان مالابي إلى أن نجاح النهج الاقتصادي.
وخاصة عند أعلى مستوى في مرافق الدولة، إنما يستلزم في الأساس توافر رؤية سياسية، فضلا عن نهج واع بالتيارات السياسية والاقتصادية بل والاجتماعية وحتى الفكرية – الثقافية التي تضطرم موجاتها عبر أقطار عالمنا بأسره.
وقد يعجب القارئ أيضاً إزاء سيرة هذا الرجل الذي قاد اقتصاد أميركا وأحوالها المالية على مدار تلك السنوات التي قاربت العشرين، فيما كان على وشك أن يختار الموسيقى ومعزوفات الساكسفون طريقاً ونهجاً. وتلك لمسة أخرى يضيفها المؤلف مجسدة في معنى الجمع بين حاسة الفن، لدرجة الاستغراق بل والاحتراف، وبين سلامة الأداء الوظيفي المسؤول حتى في مجالات عسيرة مثل المالية والاقتصاد.
أخيراً يُلمح المؤلف إلى أن غرينسبان ترك منصبه في عام 2006 ولم تكد تمضي سنتان، حتى أصيب اقتصاد أميركا بأزمة مالية قاسية انتقلت آثارها إلى أقطار شتى.
المنظور العربي
من منظورنا العربي، فإن جانباً من اهتمامنا بمثل نوعية شخصية غرينسبان الاقتصادية يرجع إلى استرعاء أنظار واهتمامات الدارسين والمؤلفين والباحثين إلى أهمية متابعة سيرة وأعمال ورؤى وأفكار مثل هذه النوعيات من الشخصيات المؤثرة في مجتمعاتنا المعاصرة.
يتميز هذا الكتاب بأنه يجمع بين متابعة سيرة واحد من الشخصيات المحورية في الميدان الاقتصادي بالولايات المتحدة، وبين التوقف ملياً بأسلوب السرد والتحليل عند الجوانب الاخرى من هذه الشخصية المتمثلة في ألان غرينسبان الذي قاد مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) على مدار 19 سنة. ويعرض الكتاب لملامح الشغف الفني لتلك الشخصية الاقتصادية.
الرجل الذي كان يعرف حياة وأعمال غرينسبان
تأليف: سباستيان ملابي – عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة بنغوين
تاريخ الصدور: نيويورك، 2017
عدد الصفحات: 878 صفحة
تأليف: هيلين مارغيتس وزملاؤها الثلاثة
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: جامعة برنستون
تاريخ الصدور: نيويورك، 2017
عدد الصفحات: 304 صفحات