ولادة ثانية
خيري منصور
هناك من يولدون مرتين، كما أن هناك أيضاً من يموتون مراراً لفرط الجزع، لكن مصطلح الولادة الثانية لم يعد عضوياً أو من معجم الطب، فهو نفسي وثقافي بامتياز، ومعناه أن من يستطيعون إعادة النظر في مجمل حياتهم ويمتلكون حاسة النقد الذاتي يكون لنهارهم الطويل فجر آخر، وكذلك لأعمارهم عمر إضافي!
وهناك مقولة لشاعر آسيوي حكيم قال فيها إنه لا يستطيع كإنسان أن يطيل من عمره إذا اقترب أجله، لكنه يستطيع أن يعمق مساحة العمر، ويعيش أعماراً في العمر الواحد وحيوات في الحياة الواحدة.
والولادة الثانية لا تحمل بها أمهات ولا تقاس بعدد الشهور لكنها ذات مخاض بالغ العسر يختبر منسوب المناعة والإرادة لدى من يقرر أن يحوّل الضارة إلى نافعة والعقبة الكأداء إلى رافعة، وهؤلاء بالطبع نادرون لكنهم تركوا بصماتهم على منجزات علمية وفكرية ومهروا زمنهم بتواقيع لا يمحوها الزمن، من هؤلاء علماء حولوا الفشل إلى نجاح، وقال أحدهم إنه بعد مئة محاولة فاشلة أراح من سيأتون من بعده من تجريب المفاتيح في مئة قفل.
ومنهم من اعتذر عن مراهقة فكرية وأعلن بلوغ الرشد العقلي ولم تأخذه العزة بالإثم.
وإذا كانت الولادة الأولى قدرية ولا خيار للإنسان فيها، فإن الولادة الثانية إرادية، فهو خلالها لا يختار والديه بل يحدد من خلال البوصلة الجهة التي توصله إلى شاطئ الأمان. لكن هذه الولادة غير متاحة للجميع، خصوصاً لمن تأقلموا مع الشروط التي تحاصرهم وحولوا كل ما يحيط بهم ويتحكم بمصائرهم إلى قضاء وقدر، وأخيراً استسلموا.
الفنانة التشكيلية التي فقدت ذراعيها بحادث سير واصلت الرسم بالقدمين، والأعمى إذا كان من طراز طه حسين أو بشار بن برد أو بورخيس رأى للمبصرين ما لا يرونه، والموسيقار الأصم أمتعت سيمفونياته ملايين البشر كما هو الحال مع بيتهوفن الذي كان لا يسمع التصفيق لإبداعه بل يراه!
إنها مفارقة أن يولد البعض مرة واحدة ويموتون مراراً مقابل آخرين يولدون مرتين ويموتون مرة واحدة!Original Article