قضايا ودراسات

يجددون آمالهم بعد انحسار

جميل مطر

أوروبا أحسن حالاً بفوز ماكرون في انتخابات الرئاسة الفرنسية، ثم أحسن وأحسن بفوز حزب ماكرون في الانتخابات التشريعية، أقرأ هذه العبارة متكررة في كتابات المتخصصين في الشؤون الأوروبية، أقرأها متكررة وأبقى حذراً في توقعاتي لمستقبل أوروبا.
منشأ حذري كامن في رحلة الشهور وربما السنوات الأخيرة في حياة منطقة اليورو وربما الوحدة الأوروبية بشكل عام، ففي تلك الشهور وربما السنوات مرت أوروبا بصعوبات تجاوزت بعضها، وبقيت عاجزة أمام أكثرها، تعرضت لمشكلات ناتجة عن اختلاف معدلات النمو الاقتصادي، وبخاصة حين استعادت الذاكرة الشعبية ذكريات تقدم دول الشمال وتخلف دول الجنوب وترجمة هذا التفوق سياسياً في هيمنة ألمانية دمرت أوروبا، صحيح أن الوحدة الأوروبية كانت مهددة ومسارات الاستقرار السياسي والاجتماعي في عدد متزايد من الدول الأوروبية أصابها ارتباك، وربما ما هو أخطر إذا أخذنا في الاعتبار نمو الحركات الانفصالية، صحيح أيضاً أن أوروبا صمدت، وهي بالفعل أحسن حالاً ولو قليلاً.
الصعوبات قائمة وبعضها ينذر بالتفاقم، وهنا تأتي أهمية التعليق بأن فوز ماكرون ثم تأكيد هذا الفوز بفوز حزبه جعل أوروبا تشعر بأنها أحسن حالاً، بمعنى أنها لا تزال على استعداد لمقاومة الصعوبات؛ صعوبات الاندماج كثيرة وفي مقدمتها كما أشرت، اختلاف درجات النمو الاقتصادي وفي بقية القائمة التمرد على العولمة مثلاً.
أول سبب جديد يعرض نفسه علينا، ظهور دونالد ترامب على مسرح السياسة في الولايات المتحدة ومن هناك إلى المسرح العالمي، قاد الرجل منذ الأيام الأولى لحملته للحصول على منصب الرئيس حملة موازية ضد الاتحاد الأوروبي، باعتباره صار رمزاً عملاقاً لفكرة العولمة ومسيرتها، لا أحد في أوروبا قلل من أهمية وخطورة الحملة الترامبية ضدها، لأن لا أحد فيها استهان بموقع أمريكا في السياسة الدولية وفي التجارة بين الدول.
من الأسباب الجديدة القديمة أيضاً هذه الأجواء السياسية المخيمة على العالم وبخاصة على القارة الأوروبية، إنها أجواء كأجواء الحرب الباردة التي هيمنت على أوروبا لعقود عدّة، ليس خافياً على الأوروبيين رغبة روسيا في إضعاف الاتحاد الأوروبي، وبخاصة بعد أن تدخلت فعلياً للتأثير في أوضاع دول أوروبية بتشجيعها قيادات وحركات مناهضة للاندماج في أوروبا موحدة، اجتمع ترامب وبوتين على كراهية شديدة لوحدة أوروبا، هنا تجاسر الوحدويون الأوروبيون وأعلنوا بلسان أنجيلا ميركل أنهم وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يفكرون في إقامة نظام دفاعي وتكاملي يعتمدون فيه على أنفسهم.
الغريب أو المثير هو موقف «أمريكا الأخرى»، أمريكا التي يمثّلها الكونجرس والمؤسسة العسكرية، ألاحظ مع كثيرين أن هاتين المؤسستين وإن لم تعترضا بشدة في العلن على سياسات الرئيس وعواطفه تجاه روسيا ومصالحه فيها، يحاولان انتزاع سلطات من الرئيس تسمح لهما بالاستمرار في تصعيد التوتر والمواجهة مع روسيا، لا الكونجرس ولا العسكر الأمريكيان مستعدان للتخلي عن سياسات الحرب الباردة. المؤسستان لا تخفيان انعدام ثقتهما بحكام روسيا، هؤلاء الحكام، وخاصة فلاديمير بوتين وجماعته القادمين من وكالة الاستخبارات، ما زالوا مؤمنين بما تلقنوه في الوكالة من كره لأمريكا تماماً مثل ما تلقنه عملاء الاستخبارات الأمريكية من كره لروسيا، نعيش، ومعنا متخصصون أوروبيون، أياماً كدنا نتفرّغ فيها لمراقبة وضع خاص للعلاقات الروسية والأمريكية. الدولتان تمارسان أساليب عتيقة من عصر الحرب الباردة مثل الحادث حالياً مع كوبا وأوكرانيا ودول البلطيق، وأساليب أحدث كثيراً مثل اختراق شبكة أعصاب المعلومات في الدولتين، وفي الوقت نفسه نراقب رئيساً للدولة الأعظم يداعب ويدغدغ حواس الدولة الخصم ويعد بوفاق تاريخي، وفي النهاية وبسبب ازدواجية السياسة الخارجية الراهنة في أمريكا، نجد أنفسنا الآن أمام أحوال ارتباك عظيم كالحال في سوريا وحال العلاقات المصرية- الروسية، وحال الأمن القومي الأوروبي وأمن الشرق الأوسط.
أوروبا أحسن حالاً بفوز ماكرون المزدوج. أدى هذا الفوز بشكل من الأشكال إلى تجديد في آمال الأوروبيين الوحدويين أن تقوم في أوروبا قيادة قوية، الحاجة ماسة كما يقول أهل الاختصاص في أوروبا إلى فرنسا قوية تدعم ألمانيا القوية في مواجهة مصادر الخطر والتهديد للوحدة الأوروبية، يأملون في جبهة فرنسية ألمانية تواجه في وقت واحد تأثيرات ترامب وتدخلات بوتين، وتتصدى إعلامياً وسياسياً للقوى المتطرفة والانفصالية، وتتصلب في المفاوضات التي بدأت قبل ثلاثة أيام مع بريطانيا حول الخروج، وتجمع كلمة الدول الأوروبية حول مسائل التعامل مع مهاجري القوارب واللاجئين، يأملون في قيادة تقود مرحلة إعادة تعريف الهوية وإعادة النظر في سياسة التعددية الثقافية. فاز ماكرون وجاء دور أنجيلا ميركل.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى