قضايا ودراسات

أحاديث الحداثة وحادثاتها

عبداللطيف الزبيدي

هل ثمّة سخرية أشدّ مكراً من مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة؟ لقد كان لهما وقع في الأذهان، بعد الخمسينات. آنذاك كانت للأوساط الثقافية العربية طليعة (آفان جارد)، مع لمسات ماركسية أو من دونها، تقدميّة، تحرّرية، بألوان شتى، فكرية، أدبية أسلوبياً ولغوياً، سياسية، اجتماعية إلخ. موضات المدارس الأدبية والنقدية الغربية، تصل دائماً متأخرة إلى الثقافة العربية، لكنَّ لها رونقاً لدى «الأنتليجنتسيا».
الحداثة وما بعد الحداثة، هما أكذب مصطلحين، وهما الأصدقان في آن. تقريباً من 1940 إلى 70 شهدت الديار العربية حداثة ثقافية، وكانت سخرية التاريخ تخبّئ صوراً أخرى لمصطلح «ما بعد الحداثة». لقد ظهر في تلك الحقبة، ولكن مضمونه كان مؤجلاً، فهو أشدّ انطباقاً على سني القرن الحادي والعشرين. صار «ما بعد الحداثة» يعني «إذا جاوز الشيء الحدّ، انقلب إلى الضدّ»، اذهب إلى أقصى الحداثة، تجد نفسك في العصر الحجريّ، الذي وعد به «النظام العالمي الجديد» بلداناً عربية منتقاة.
ما هي أسباب فشل التيار عربيّاً؟ في الغرب كانت الثقافة عنصراً عضوياً في منظومة الحياة. في بلاد العرب حركة الثقافة لا علاقة لها بالتنمية. التنمية نطيحة متردّية، والثقافة منفصلة عن الواقع. ما بعد الحداثة بلا نمو اقتصادي، بلا مناهج متطوّرة وبحث علمي، بلا زراعة وصناعة، ولا سيادة على التراب الوطني، بلا حماية للشعوب من الإبادة والتهجير القسري. الطريف أن طلائع الشعر الحديث ظهرت في العراق مع الملائكة والسيّاب.
العجيب هو أن باريس، أمّ المدارس الأدبية والفنية، هي التي تنذر بإظهار الوجه الحياتي للثقافة. لا يستبعدنّ أحد أن تصبح الرأسمالية أمام أخطر امتحان. الرأسمالية ليست إيديولوجيا، هي مجرّد آلية لمراكمة الثروة، حتى بالقوة إذا لزم الأمر. سيكون المشهد ساخراً إذا انتقلت التحركات إلى مجمل أوروبا، لكن الأطرف هو انتقالها إلى القارّة الجديدة، مثلما فعلت الثورة الفرنسية أوّل مرّة.
لزوم ما يلزم: النتيجة القياسية: كيسنجر قال إن من لا يسمع طبول الحرب فهو أصمّ، ونضيف أن من لا يرى التحول العالمي الكبير فهو أعمى.

abuzzabaed@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى