مقالات عامة

أسئلة حادث سكك حديدية

عبدالله السناوي

إدارة الشأن العام بكل تحدياته وأزماته، مسألة قواعد تضبط الأداء وتقدر على التصحيح. بقدر وضوح القواعد ترسم حدود المسؤولية العامة، وإذا غابت تتفاقم الأزمات دون أمل في تجاوزها، وتتكرر المآسي دون قدرة على وقف نزيفها.
وقد كانت حادثة السكك الحديدية الأخيرة في محافظة البحيرة في مصر فاجعة إنسانية بذاتها، حيث تناثرت في موضع التصادم أشلاء بشر بجوار بضائع رخيصة، وتعالت أصوات الألم ولوعة الفراق المفاجئ.
في مثل هذا النوع من الفواجع المتكررة من وقت لآخر على القضبان، لا بد من طرح الأسئلة الرئيسية دون بحث عن أكباش فداء، كما جرت العادة.
أول الأسئلة، من يتحمل مسؤولية ما وصلت إليه السكك الحديدية من انهيار؟
منذ عقدين على أقل تقدير تكاثرت حوادث القطارات، وبعضها كان مروعاً بحجم ضحاياه. أطيح بوزراء نقل متتابعين، حتى بدا المنصب نفسه مشروع مشنقة لكل من يتولاه، والتغييرات شملت رؤساء هيئة السكك الحديدية، حتى لم يبق أحد في منصبه لفترة طويلة.
عند كل حادث شكلت لجان تقصي وتحقيق برلمانية وفنية، وتكررت التوصيات دون أن تجد في أي وقت حيزاً للتنفيذ.
هنا يطرح سؤال ثانٍ نفسه، لماذا تعطلت طوال عقدين أية حلول ممكنة أشار بها الخبراء والفنيون وتبنتها توصيات لجان التحقيق والتقصي؟
أحد الافتراضات الموجعة يقول إن من يستخدمون تلك القطارات من أفقر المصريين، ولا يمكن استبعاد مثل هذا الافتراض بالنظر إلى طبيعة الخيارات الاجتماعية السائدة. هذا وضع خطر على السلامة النفسية للمجتمع وثقته في حرص الدولة على صون حياة مواطنيها الأكثر فقراً.
الافتراض الموجع يقتضي اتخاذ كل ما هو ضروري وعاجل، لوقف نزيف الدم على قضبان السكك الحديدية، وتطوير خدماتها وتوفير الحد الأقصى من ضمانات الأمن والسلامة، وإذا لم توضع حوادث القطارات المتكررة في سياقها الاجتماعي، فإن الرؤية لا بد أن تكون قاصرة.
خدمة التنقل بالقطارات مسألة عدالة اجتماعية يصونها الدستور ويلزم الدولة بكفالتها، كما أنها مسألة أمن قومي لا يمكن التهوين منها.
من الزاويتين الاجتماعية والأمنية، فإن إغلاق الخطوط الحديدية غير الآمنة بصورة مؤقتة حتى إصلاحها، خطوة صحيحة، لكنها غير كافية، حيث يترتب التنبه إلى أن قطاعات واسعة ممن يبحثون عن أرزاقهم في المناطق الريفية، ليس بوسعهم تحمل تكاليف الانتقال بعيداً عن تلك الخدمة.
الخشية في بلد مثل مصر تستغرقه بيروقراطيته، هي أن ما هو مؤقت يتحول إلى دائم.
بنص الخطاب الرسمي تفوق فواتير الإصلاح طاقة الموازنة العامة والموارد المتاحة، حيث تقدر بما يتراوح بين 200، و250 مليار جنيه مصري. للخطاب منطقه، غير أن هناك فواتير أخرى دموية على قضبان السكك الحديدية، لا يمكن تحملها.
الفكرتان متضادتان على نحو يستدعي سؤالاً ثالثاً عن الأولويات. السياسات قبل المشاريع هذه حقيقة ثابتة في إدارة الشأن العام بأي بلد في العالم. الأولويات تحكمها الرؤية العامة، وهذه حقيقة ثابتة أخرى.
إذا لم يوضع إصلاح السكك الحديدية على رأس الأولويات، أياً كانت الأعباء المالية، فمعناه إعفاء كافة القيادات التنفيذية من أية مسؤولية.
سيقولون لقد حذرنا واقترحنا ولم يأخذ برأينا أحد.
في سؤال الأولويات؛ هناك مشاريع مثل شق الطرق الجديدة لا غنى عنها، بأية حسابات اقتصادية وتنموية، أو شق أنفاق تحت قناة السويس، بضرورات ربط سيناء بالداخل المصري وتنميتها، وهناك مشاريع أخرى تثير سجالاً واسعاً ولا توافق على أولوياتها .
ترتيب الأولويات مسألة ترشيد للنفقات واستجابة في الوقت نفسه للاحتياجات الملحة.
يقيناً، فإن إصلاح الطرق المتهالكة وتحديث السكك الحديدية، تفوقها في أولوياتها أية مشاريع أخرى، حيث ترتفع معدلات الحوادث عليها وتنزف الدماء بلا انقطاع.
ورابع الأسئلة: أين دور المجلس النيابي؟
بالنص الدستوري فإن «من حقه أن يقرر سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، أو أحد نوابه، أو أحد الوزراء أو نوابهم».
صلاحياته تخوله التصدي بالمساءلة للسلطة التنفيذية، عبر أدوات من بينها: «طلب مناقشة موضوع عام لاستيضاح سياسة الحكومة بشأنه، أو أن يشكل لجنة خاصة لتقصي الحقائق في موضوع عام».
غير أن المجلس النيابي الحالي لم يمارس أي دور يعتد به في تلك الرقابة، حتى إن وزيراً واحداً لم يستجوب أمامه باسم «دعم الدولة».
الدعم الحقيقي للدولة هو أن تقوم كل مؤسسة بواجبها، وفق صلاحياتها الدستورية، وألاَّ تتخلف عن هذا الواجب بأية ذريعة.
دولة المؤسسات مسألة قواعد، فإذا ما تعطلت تتفاقم الأزمات وتنحسر الثقة في كفاءة إدارتها.
وخامس الأسئلة يخص الإعلام ومسؤوليته المفترضة في توعية الرأي العام بالحقائق، وفتح النقاش العام بكل جدية. فلا يمكن إنكار مدى التدهور الذي لحق بالإعلام المصري في السنوات الأخيرة، حتى إن أدواره في الأخبار وتداول الآراء باتت شبه معطلة، وغير مقنعة على أي وجه.
عندما تكون البيئة الإعلامية على مثل هذا النحو المزعج، فإن أجواء الإحباط تنتقل بالضرورة إلى «السوشيال ميديا» بحثاً عن إعلام بديل.
هناك تفلت لا شك فيه على «السوشيال ميديا»، بعضه بدواعي الغضب على سياسات ومواقف بعينها، وبعضه الآخر بدواعي تصفية الحسابات والتشهير بالخصوم.
استباحة الشخصيات العامة وبث تسجيلات تدخل في الحياة الخاصة عبر فضائيات دون حساب، وحماية وجوه متفلتة من المساءلة القانونية، فاقم من ظاهرة الاستباحات.
الأصل أن تكون هناك قواعد تضمن الحريات العامة، وتصون الخصوصية وتمنع الاستباحات أياً كان مصدرها. والأصل أن السياسة هي التي تحدد «أجندة المدينة» وقضايا النقاش العام، وعندما يغيب مثل ذلك النقاش عن الشاشات يسود الارتجال، وبعضه عصبي، وبعضه الآخر متفلت.
هذه أوضاع خطرة في بلد تحاصره أزماته، ويبحث بالكاد عن أمل.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى