قضايا ودراسات

أسئلة في عثرات المشروع القومي العربي

حين يراجع الدارس، بعقل نقدي، تجربة العمل القومي العربي في مساراتها المتعرجة ومنعطفاتها الكبيرة؛ وحين يتأمل في الكمية الهائلة من الأخطاء التي وقعت فيها قواه: في السلطة -أساساً- وخارجها، لن يفاجئه أن تؤول التجربة تلك إلى ما آلت إليه من مصاير سيئة؛ فلقد حصد العمل ذاك ما ازدرعه من أخطاء كان يمكنه، في حالات عديدة، أن يتفادى الوقوع فيها. أما إن وضع الباحث التجربة تلك في ميزان المسألة الرئيسية التي انتدبت نفسها لها- وهي تقديم جواب قومي عن المسألة الكيانية العربية (الوحدة العربية)- فسيصبح الحكم، حينها، قاسياً في حقها، لأنها ما تقدمت (إلا في حالة الوحدة المصرية-السورية الموءودة) في إنجاز فصول منها ! والأنكى من ذلك أن النخب التي وصلت إلى السلطة، في بعض البلدان العربية، محمولة على وعد البناء الوحدوي العربي، انتهت إلى إقامة سلطة وطنية (قطرية) عززتها في وجه أي تمدد عربي مجاور، مشددةً على استقلالها وسيادتها، وعلى نحو كانت تنضم فيه إلى محصلة الوضع الإجمالي للتجزئة؛ أسوةً بالكيانات العربية الأخرى التي حكمتها نخب سياسية غير قومية الخيار والمنبت أو هي، على الأقل، ما ادعت – يوماً- أنها نخب قومية عربية تتطلع إلى أكثر من بناء الكيان الوطني، وتقبل أشكالاً أعلى من التعاون والتنسيق يوفرها ميثاق جامعة الدول العربية ومؤسساتها.
والحق أن ملاحظة المآلات تلك تعيد الوعي إلى سؤال ابتدائي استبدّه الجواب عنه وأضمر، وكأنما هو في باب تفسير الواضحات من المفضحات. والسؤال ذاك – وقد غيب-هو: هل كان هناك، حقاً، مشروع قومي عربي توفرت له أسباب الكينونة: من فكرة وبرنامج عمل ونخبة قائدة ومؤسسات وجمهور اجتماعي حامل…، حتى يمكننا محاكمة تجربة سياسية – حديثة ومعاصرة- عما إذا كانت التزمت المشروع إياه، في عملها السياسي وفي إدارتها سلطة الدولة، أو حادت عنه، أو أخطأت الأداء ؟ لنبدد، ابتداءً، بعض ما قد يخلفه مفهوم المشروع من التباس عند من سيقرأ هذا الرأي فيستبدّه، هو نفسه، معنى المشروع ويسقط، بالتالي، شرعية أي مساءلة حوله، أو حول سياسة الحركة القومية إياه.
ليس المشروع فكرةً فقط (فكرة الوحدة مثلاً) يبشر بها مثقفون ويدعون إليها في تآليفهم، وتصدر من الدعوة حركات سياسية توسع دائرة التبشير والدعوة، ثم لا تلبث نخبة من البيئة السياسية هذه أن تصل إلى السلطة، بطريقة ما، فتبدأ في تطبيق ما تعتقد أنه مشروع قومي. مفهوم المشروع أبعد في الدلالة من هذا المعنى المفهوم به، والمطبق في تجربة الحركة القومية. هو أكثر من فكرة عامة ومن شعار؛ هو رؤية متكاملة لأبعاد الظاهرة كافة؛ وتخطيط دقيق للتنفيذ؛ وتوليد للأدوات والمؤسسات؛ وتحديد للمهمات والمراحل، وتعبئة منظمة للقوى والموارد؛ وتأهيل للجمهور الاجتماعي الحامل؛ وتوحيد للأطر والقيادات…الخ.
ولم يكن من ذلك شيء كثير في التجربة القومية العربية، ولا كان ما حصل فيها يشبه ما حصل في تجارب مثيلاتها من الحركات القومية في أوروبا وآسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولذلك، يعسر القول، عندنا، بوجود مشروع قومي حقيقي متكامل. ربما كان عبد الناصر أقرب إلى التعبير عنه في السلطة، ومن خلال الإنجازات التي حققها، ولكن ما حاوله اعتورته نقائص لا حصر لها نالت من صورته كمحاولة لبناء مشروع لتنال، بالتالي، من مكتسباته المتحققة ذاتها. لنقف، سريعاً، على بعض وجوه غياب عناصر المشروع في «المشروع القومي العربي»: أولها الحلقة المفقودة بين الفكر (القومي) والممارسة؛ ونعني بها لحظة تنزيل الفكرة القومية إلى رؤى برنامجية تفصيلية في مسائل البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والتخطيط لذلك البناء.
الغالب على القوميين أنهم اكتفوا بمبادئ وشعارات عامة، وحين وصلوا إلى السلطة طبّقوا سياسات تجريبية قبل أن يستقروا على الخيار «الاشتراكي». المثال الأجلى لذلك مصر الناصرية؛ لم يبدأ عبد الناصر قومياً عربياً، ولا استند حكمه، في البداية، إلى تراث قومي عربي، وإنما اهتدى إليه بضغط الحاجات الموضوعية. أما برنامجه الاجتماعي فاستلهم التراث الاشتراكي أكثر مما استلهم التراث القومي. وكما يشهد ذلك على غياب رؤى برنامجية قومية، يشهد عليه – أيضاً- ما بين التجارب القومية، في سوريا ومصر والعراق وليبيا، من فروق عدة في البناء الاجتماعي – الاقتصادي كما في هندسة المجال السياسي.
وثانيها فقدان وحدة القرار والقيادة مقابل تعدد المرجعيات السياسية والتنظيمية. والحق أنه لم تكن لدينا حركة قومية واحدة، بل حركات قومية متعددة بتعدد المجتمعات والأقطار التي نبتت فيها، ومختلفة باختلاف المواريث الثقافية والسياسية التي انتهلت منها.
وثالثها أنها كانت حركةً سياسيةً نخبوية، وأن جماهيريتها لا يعتد بها، لأنها نشأت بعد أن وصلت إلى السلطة. وبيان ذلك أنها لو كانت جماهيرية ومهيمنة، ما احتاجت إلى الوصول إلى السلطة من طريق الانقلابات العسكرية.
أما رابعها ففقدان تجربتها البناء المؤسسي؛ لم تكن الناصرية حزباً سياسياً أو حركة مستندة إلى حزب، والحزب الذي أنشأته «الاتحاد الاشتراكي العربي» حزب تابع للسلطة. وما أن رحل عبد الناصر، حتى انتهت الناصرية، لأنها لم تنجب مؤسسات تحافظ على مشروعها السياسي، وهذا عينه يصدق على عراق حزب البعث وعلى ليبيا القذافي؛ انتهى المشروع السياسي بنهاية قائديهما. وهذه مشكلة أي قيادة كاريزمية تملأ فراغ المؤسسات… ولا تملؤه!
يؤدينا السياق النقدي السابق إلى استنتاج حقيقة لم ننفك عن التشديد عليها هي أن العرب لم يخفقوا، في عصرهم الحديث، في الجواب عن المسألة الكيانية العربية جواباً قومياً ناجعاً فقط لأن العامل الخارجي (الاستعماري، الإمبريالي، الصهيوني، العولمي) لم يترك أمامهم مجالاً لذلك، وإنما أيضاً، وربما أساساً، لأنه لم يكن لديهم مشروع قومي حقيقي شامل وموحد، والمشروع الذي كان بحوزتهم اعتوره من النقائص والتناقضات والأخطاء ما جعله عاجزاً عن تقديم مثل ذلك الجواب. غير أن الاستنتاج هذا لا يبغي أن يمحو، بجرة قلم، تاريخاً نضالياً مشرفاً، هو تاريخ الحركة القومية، ولا يبغي النظر إليه نظرةً عدمية، وإنما يروم نقده من أجل اجتناب أخطائه، والبناء على مكتسباته، وفتح الطريق أمام أفق جديد للعمل القومي.

عبد الإله بلقزيز
hminnamed@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى