أسرار الدولة الذكية
عبدالمنعم سعيد
بدأ «العصر الذكى» فى الحياة الإنسانية، ولا داعى لأن تظن أن كل العصور التى عشناها كانت عصورا «غبية»، فمثل ذلك قد يصيبك بالإحباط. يكفى أن تظن أن كل عصر كان أكثر ذكاء من العصور التى سبقته، وما تسمعه عن «الزمن الجميل» ليس إلا كذبة كبرى نجح بعضنا فى الترويج لها لأنها التى تبرر حاضره، وتجعله أكثر قبولا. كل ما يمكن الحديث عنه أن عصرا آخر بدأ، وله ما يميزه عن العصور، وهو فى عصرنا هذا أن شيئا ما غير الإنسان بات قادرا على تعقل قضية والتصرف على أساسها. العربة الذكية مؤخرا بات بمقدورها أن تتحرك وحدها فى الشوارع والميادين فلديها قرون استشعار تجعلها تعرف المسافات وتميز بينها، وكذلك الفارق بين أجساد البشر والعربات الأخرى وهى تذهب فى كل الاتجاهات.
لا أعرف شخصيا ما إذا كانت مثل هذه العربات «الذكية» يمكنها السير فى القاهرة أم لا، ولكن من يعلم فربما يحدث ذلك بعد تنفيذ خطة ٢٠٣٠ التى سوف تضعنا بين ثلاثين دولة فى أول صف العالم، ولابد أنها جميعا سوف تكون لديها القدرة على استيعاب السيارات الذكية؟. هناك أيضا الأدوية الذكية وهى التى تميز حاليا بين الخلايا السرطانية، والخلايا السليمة فتقتل الأولى، وتترك الثانية، وبذلك حلت واحدة من معضلات علاج المرض الخبيث الذى كان يتم أثناء العلاج منه قتل المريض فى ذات الوقت. وبالطبع فإن الشفاء والموت من عند الله.
لم تعد السيارات والأدوية هى وحدها الذكية، فهناك قائمة طويلة تشمل البيوت الذكية والمطابخ الذكية، وأدوات المنزل الذكية، وهكذا أمور. وفى عام ٢٠١٠ ذهبت إلى اليابان وكان من الأمور التى شاهدتها تجمع للصناعات الذكية التى تحضر لها شركة باناسونيك وشاهدت فيها بيتا ذكيا يعرف كيف يحافظ على الطاقة ويولدها طوال الوقت من فوتونات الضوء، فلا شىء يخلق من عدم ولا شىء يضيع. شاهدت أيضا التليفزيون الذكى الذى له قدرة على التمدد بقدر الحائط، والانكماش ليناسب الأطفال. اليوم كثر الحديث عن المدن الذكية، وربما فى المستقبل سوف نسمع عن الدول الذكية أيضا ولكن لكل أمر وقته وزمانه.
ولكن ما يجمع كل ما هو ذكى فهو أن فى تركيبته نوعا من «الذكاء الصناعى» أو AI أو Artificial Intelligence، تذكر هذين الحرفين من اللغة الإنجليزية لأن ذيوعهما لن يقل أبدا عن ذيوع حرفين آخرين خلال الربع قرن الفائت IT. انتهى عصر IT وبدأ عصر AI، وفيه فإن المادة تفكر وتعرف كيف تتصرف بعيدا عن العقل الإنسانى. لا داعى لمناقشة ما إذا كان ذلك سوف يشمل كل شىء أو أنه سوف يكون أفضل أو أسوأ للإنسانية، ومن المبكر أن يولد جدل الآن عما إذا كان يمكن الاستغناء عن عقل الإنسان، فهذه أمور بعضها فلسفى، وبعضها يتعلق بالحكمة، وهى مسألة سوف نناقشها فيما بعد عندما نصل إلى عصر ما بعد الذكاء، كما فعلنا من قبل فكانت عصور الحداثة وما بعد الحداثة وهكذا أقوال.
وللعلم فإن المصريين ساهموا فى مولد عصرين من قبل ربما قبل سبعة آلاف عام، حينما ساهموا فى الثورة المفهومية Cognitive Revolution والثورة الزراعية، عرف المصريون كيف يفهمون العالم من أين جاء وإلى أين يذهب، وما الذى يفعلونه فى الدنيا حتى يساهموا فى التراكم الحضارى للبشرية من ناحية، ويجعلوا وجود الإنسان على الأرض لحظة غير عابرة، ولها معنى يتركه الإنسان وراءه بعد أن يذهب إلى العالم الآخر. بعد ذلك فقد المصريون كل الثورات التى تلت ومنها ثلاث ثورات صناعية غيرت الدنيا خلال الثلاثة قرون الأخيرة أكثر من ألفيات سبقتها. وليس صدفة أن تقدير عدد المصريين عند نهاية العصور الفرعونية بلغ ١٠ ملايين نسمة، أما فى بداية الحداثة المصرية مع مطلع القرن التاسع عشر كان عدد المصريين مليونين ونصف مليون نسمة. ورغم افتقاد المصريين كل العصور الصناعية إلا أنهم استفادوا منها، فبلغ عددهم قرابة ١٠٠ مليون الآن وربما آن الأوان لكى يلحقوا بما فات.
المصريون يملكون حاليا أربعة أمور تخص العصر الذكى القادم الذى بدأنا نعيش فيه الآن، وكلها فيها غزارة فى الحجم والقيمة. أولها الزمن الذى كان المصريون أول من عرفوه مع تعاقب الليل والنهار، ومع تعاقب الفصول. الزمن كان أول اختراع إنسانى لا بد منه لقيام الحضارة؛ ولكن ذلك جرى منذ آلاف السنين. الآن فإن مسيرة الزمن تغيرت ففى عصرنا الحالى عرفنا الثانية وكسورها، وظلت الكسور تتراكم على كسور الثانية حتى وصلنا إلى الفيمتو ثانية وما هو أقل، ومن عجب أنه فى هذا الزمن المحدود للغاية يمكن أن يجرى الكثير. فى مثل هذا نحن متأخرون للغاية، ورحم الله الدكتور أحمد زويل الذى ناب عنا فى المساهمة. ولكن الزمن المتناهى الصغر ليس كل الحكاية البشرية، فهناك الزمن المتناهى فى الكبر، وفى العصر الذكى فإن التاريخ الطويل للإنسانية فى متناول اليد، وهذا من الممكن استدعاؤه وإحياؤه. ولا يوجد بلد آخر فى العالم لديه مثل هذا التاريخ المجمع كما هو الحال لدينا. قال لى ممثل «جوجل» فى الشرق الأوسط المقيم فى دبى إن شركته لديها مشروع يخص القاهرة وحدها لكى تخلق من جديد فى المجال الافتراضى بعصورها المختلفة فإذا هى مشعة بحضارة الأزمنة كلها.
مصر لديها من الزمن ما يكفى الدنيا بأسرها، وكذلك لديها من السليكون (الرمل) ما يكفى العالم كله وهو يقوم بتصنيع الموصلات الذكية، والكمبيوترات الأكثر ذكاء، والساعات العبقرية، والتليفزيونات المذهلة، والزجاج الصلب، فالصحراء لم تعد صحراء، إنها الذهب الأصفر الحقيقى. أما الشمس فهى الثروة اللامتناهية ذاتها، هى القوة الخارقة التى لم يفهمها المصريون القدماء واعتبروها إلها ولكنه كان التعبير الأول عن وجود الخالق. الشمس لم تعد مجرد ضوء وحرارة، وإنما طاقة متجددة كل لحظة، وما تولده من فوتونات يمكنها التحول إلى طاقة دائمة وهذه تتحول إلى ضوء وذلك يعود مرة أخرى فى دورة لا نهائية. وصدق أو لا تصدق أيضا أن مصر لديها كميات لا نهائية من المياه، ومن يعدون أمتار المياه المكعبة لمياه النيل لا يفكرون بأكثر من الثورة الزراعية، ولا يعرفون شيئا عن العصور الذكية.
كل ما نحتاجه أن نعرف كيف أصبحت إسرائيل وقبرص والأردن مكتفية من المياه التى جرت تحليتها من مياه البحر، وكيف أن الزراعة تغيرت فى إثيوبيا وبوركينا فاسو فباتوا مكتفين غذائيا لأن استخدام المياه لم يعد كما كان. مصر لديها بحران، وخليجان، و١٤ بحيرة، ونهر، وفيها من المياه ما يكفى مع التدوير ما يكفيها حتى نهاية الزمان. إذا فعلنا ذلك فربما ندخل عصر الأقطار الذكية حتى قبل أن يبدأ، فقلب العصر الذكى أنه ما دامت المادة لا تفنى ولا تخلق من عدم، فإن بقدرة الإنسان أن يجعلها دائمة التوالد والخلق.
أليس هذا هو ما يحدث للإنسان المستدام؟.. الثورة الذكية قادمة يا سادة ولدينا كل أدواتها الكبرى، ولكن لا يمكن التفكير فيها ونحن لا نعرف الثورة الصناعية الأولى بعد؛ فكم من موظفى الحكومة يعرف استخدام الآلة الكاتبة؟!.
*نقلا عن صحيفة “المصري اليوم“.