قضايا ودراسات

أكثر من غرفة وأقل من بيت

يوسف أبو لوز

مرّ الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر في عمّان، مثل مرور نسمة هواء باردة على سنبلة، وكان ذلك في العام 1995، وهي فترة التسعينات التي شهدت توجه الكثير من الكتّاب والشعراء والفنانين العراقيين إلى العاصمة الأردنية، لتنشأ بذلك حركة ثقافية حيوية يلتقي فيها المثقف الأردني مع المثقف العراقي، في ثنائية أدبية إبداعية وفكرية سريعة.
ورغم أن عمّان كانت محطة مرور إلى بلدان وهجرات عراقية ثقافية إلى أوروبا، بالنسبة إلى الكتّاب العراقيين، إلا أن هذه المحطة كانت غنية بالكتابات والتجارب الشعرية على وجه خاص؛ أي أن هناك بعض الإيجابيات للحروب والأنظمة الطّاردة لكتّابها ومثقفيها، ومن هذه الإيجابيات (رغم مرارتها) تلك الحيوية الثقافية في الأردن في التسعينات، والتي أوجدها كتّاب عراقيون حطوا رحالهم في عمان.
لم يمكث حسب الشيخ جعفر طويلاً في عمّان، وسوف يكون ضيف شعراء عراقيين في مكان متواضع، يمكن وصفه بأنه أكثر من غرفة، وأقل من بيت، لكنه في زمن العسرة والضيق مكان حميم ما دام يوفّر لشعراء مهاجرين، الماء والنوم والقليل من الطعام، لكن كان فيه الكثير من الشعر والصداقة.
كنت قد تعلمت من مجموعة حسب الشيخ جعفر «زيارة السيدة السومرية»، ما يُسمى الشعر المدوّر، وتعلمت أيضاً كيف يحوّل الشاعر اللغة إلى نهر وجريان سردي منفتح على متواليات مدهشة، من الصور المشتقة من الحياة في ذروة مسرّاتها، وأيضاً أحزانها، ولم أكن وحدي من تعلم كل ذلك من حسب الشيخ جعفر؛ بل إن جيلاً من الشعراء العرب أخذوا عن صاحب «نخلة الله»، الكثير من أسرار عبقرية تدوير الشعر، وتخليصه من الرغويات والبلاغات الصوتية التي بلا جدوى إبداعية.
احتفيت بحسب الشيخ جعفر في عمّان، وولد بيني وبينه ما يشبه اليوميات القائمة على صداقة دافئة، وسأذكر هنا بالمزيد من الاعتزاز أنني كتبت عنه مقالة أصف فيها ذلك المكان الذي هو أكثر من غرفة، وأقل من بيت، وعلى إثر ذلك انتبهت أمانة عمّان الكبرى، برئاسة الرجل الكريم النبيل ممدوح العبّادي آنذاك، ورئيس تحرير مجلة «عمّان»، الراحل العزيز عبدالله حمدان آنذاك، فقامت الأمانة بتوفير بيت للشاعر، وكرّمته، وهو يستحق التكريم، وبعد ذلك سوف يحصل حسب الشيخ على جائزة سلطان العويس الثقافية، فتنقذه هذه الجائزة الإماراتية الكريمة من عسرته، هو الشاعر النبيل صاحب النفس الإرادية العالية.
تسعينات عمّان شهدت أيضاً حضور الشاعر عبدالوهاب البياتي المعتز بنفسه دائماً، مثل حسب الشيخ جعفر، ومثل كل الكتّاب العراقيين في عمّان، المعتزين بأنفسهم، والذين صبروا على هجراتهم وأحزانهم برؤوس مرتفعة، وكل منهم وجد منفاه الأوروبي، فشدّ الرحال إليه.
ولا أنسى الشاعر جان دمّو في عمّان، الذي كان يسخر شقاءه، ويحوّله إلى ضحك نهاري وليلي، من دون أن تنكسر نفسه، أو تنكسر روحه، هو الذي كان أشبه بصورة خيط في الرّيح، وعندما وجد جان دمّو لقمة نظيفة وكأس ماء نظيف في منفاه الأوروبي.. مات وحيداً، وظلت ضحكته ترنّ في شارع السلط.
عزة النفس، وكرامة الكتابة، والصبر الأيوبي المديد، كانت صورة أصدقائنا الشعراء العراقيين في عمّان.

yabolouz@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى