ألا من نهاية قريبة؟
جميل مطر
لا أكتب هنا عن المستقبل، إنما عما سوف يرثه المستقبل من أيامنا. المستقبل قد يكون غداً أو بعد غد، وقد يتأخر فيأتي بعد عقد من الزمن أو عقود. بين القادة الحكام من اختار وحدد له عام 2030 موعداً، وهناك من قرر بعد أن خطط واستعد للمستقبل أن يحل في عام 2050. أغلبنا يريد ألا يتعجل المستقبل قدومه قبل أن تكتمل استعداداتنا. نتمنّى أن يأتي وقد تخلصنا من أسوأ ما أفسدته شهوتنا للعنف والجشع ومن ركام التخلف. هذا الركام الذي خلّفه طول الخضوع لسلطة متخلّفة أو لسلطة مستبدة أو لسلطة تعالت على ناسها وزمانها. نأمل أن نسمع المستقبل يدق أجراس بيوتنا، عندما يتأكد من أن القوى العالمية توازنت. عندها يصبح السلام في العالم ممكناً، والاستقرار أقوى احتمالاً.
أخشى ما أخشاه أن يأتي مبكراً، فيبني ويشيّد تاريخاً فوق موروث علامات فشله كثيرة وعيوبه جد خطيرة. أتحدث هنا وفي السطور الآتية عن حالات فشل وقع أغلبها خلال مرحلة كان العالم ينتقل فيها من نظام قطبية ثنائية مستقرة ومتوازنة إلى نظام لم يتحقق ألا وهو نظام القطبية الأحادية. بقي العالم طوال سنوات الانتقال هائماً يبحث عن نظام جديد أركانه لم تتوفر.
لا يكتمل حديث عن ابتكارات وإنجازات الدبلوماسية دون ذكر المبادئ التي طرحها جورج كينان، وكان سفيراً لبلاده في موسكو، في تبريره لاقتراحه فرض حصار على الاتحاد السوفييتي وإقامة سلاسل من الأحلاف السياسية والعسكرية تحت قيادة الولايات المتحدة. هذا الاقتراح اعتبره أساتذة الدبلوماسية والعلاقات الدولية في ذلك الأوان بمثابة الكتاب المقدس لمرحلة الحرب الباردة وللأسس التي بني عليها نظام القطبية الثنائية.
كذلك يصعب أن نتجاهل الدور التاريخي الذي قام به دبلوماسيون مجهولون للعامة. هؤلاء ليسوا مجهولين لعلماء السياسة الذين درسوا تفاصيل الجهود التي بذلت على هامش الحرب العالمية الثانية، لبناء مؤسسات لنظام عالمي جديد سوف يعلن انبثاقه في أعقاب نهاية الحرب. نذكر بالفخر اثنين ساهما بدور مشهود في وضع أساس أول وثيقة في التاريخ، اهتمت بتعريف حقوق الإنسان، ونصت على ضرورة حمايتها والدفاع عنها كشرط لا غنى عنه لضمان سلامة واستقرار النظام العالمي الجديد. الاثنان هما الوزير اللبناني شارل مالك والسفير المصري محمود عزمي.
لم تشهد الساحة الدبلوماسية خلال المرحلة الانتقالية، وهي المرحلة المستمرة معنا، دبلوماسيين حققوا إنجازات مبهرة كتلك التي حققها في مراحل سابقة النجوم العظام الذين ذكرت أسماء عدد منهم. كذلك، وبالمصادفة الغريبة، لم تشهد الساحة العسكرية العالمية خلال المرحلة نفسها، إنجازات حربية مبهرة كتلك التي حققها نجوم عظام على شاكلة نابليون وبسمارك ومونتجمري وأيزنهاور وماكارثر.
الحرب في أفغانستان مستمرة والأمل ضعيف في أن تحقق أمريكا نصراً حاسماً فيها. وحرب أخرى في العراق انتهت إلى كارثة تاريخية بكل معنى الكلمة. حرب مشكوك في شرعيتها وأداء قادتها، وفي قيمة أهدافها المعلنة ونهايتها الخالية من الدرس المفيد والمغزى، وآثارها بعيدة المدى في توازن القوى في الشرق الأوسط وهيمنة إيران على العراق. هناك حرب ضد سوريا تستحق وبحق صفة حرب الطوابق المتعددة. طابق لحرب بين دولة وتنظيم إرهابي أو تنظيمين. طابق ثان لحرب بين دول كثيرة وتنظيمات كثيرة. طابق ثالث لحرب بين دول عديدة ودول عديدة وحرب في طابق رابع بين تنظيمات عديدة. وفي طابق خامس لحرب الكل ضد الكل تحت إشراف الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. وفي النهاية لا أمل بأن تخرج دولة منتصرة أو على الأقل فخورة بانتصارها في حرب، فسادها صارخ وكفاءتها معدومة، وما تسببت فيه من دمار يتجاوز الأسطورة.
حرب أخرى غموضها وفسادها وخسائرها يتحدى الفهم والعقل. إنها الحرب العالمية ضد الإرهاب. أخطبوط أذرعته بالعشرات، بينها الاستخباراتية، وبينها شركات سلاح وسيارات رباعية الدفع وطائرات بدون طيار، وبينها شركات ومصارف متعدية الجنسية، وشركات تابع أغلبها لوزارات الدفاع تتاجر بالمرتزقة، وعصابات تتاجر بالدين، وعصابات تتاجر بالهجرة، وسياسيون يتاجرون بالأزمات.
لم تشهد المرحلة الانتقالية التي بدأت بنهاية الحرب الباردة ظهور دبلوماسيين عباقرة، ولم تثمر مبادرات مبهرة. لم تشهد كذلك ظهور عسكريين متألقين، ولم تثمر انتصاراً واحداً مبهراً. لم تشهد على طول السنين ظهور مفكرين مبدعين في فنون الاستراتيجية وعلوم العلاقات الدولية وفلسفة الحكم. في الوقت نفسه نشهد نحن بأن هذه المرحلة الانتقالية لم تفرز لنا وللتاريخ رجال سياسة وقادة دول وحركات سياسية على مستوى ما أفرزته مراحل سابقة، كمرحلة القطبية الثنائية أو مرحلة توازن القوى. هاتان المرحلتان أفرزتا ماو تسي تونج وونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين، أفرزت أيضا تيتو ونهرو وعبد الناصر. فجأة توقّف هذا السيل من السياسيين التاريخيين، توقّف عندما انطلقت مترددة ومتعثرة المرحلة الانتقالية، وتوقفت مع انطلاقها تدفق الأحلام الكبار والأفكار البراقة في الدبلوماسية كما في العسكرية كما في إدارة السياسة والحكم.
في هذه المرحلة الانتقالية ترعرعت أفكار وحركات تمجد العودة إلى أساليب تعتمد الشعبوية أساساً للحكم. وفي هذه المرحلة انتكست الديمقراطية وتمرّغت دساتير كثيرة في التراب.
ألا من نهاية قريبة لهذه المرحلة الانتقالية؟