مقالات عامة

أولوياتهم وأولوياتنا

د. محمد الصياد

تستمع إلى محطات الإذاعة وتشاهد محطات البث الفضائي الإخبارية، وتتصفح الإعلام المقروء في عالمنا العربي، وتقوم في الأثناء بفعل ذلك، ولكن في وسائط الميديا الغربية والدول الآسيوية الصاعدة، وتداوم على تكرار خوض هذه التجربة في مجال الإعلام المقارن إن جاز التعبير لتكتشف البون الشاسع بين تغطياتنا لما يدور في العالم من أحداث، وبين تغطياتهم لها.
سوف تجد أن تغطيات النشرات الإخبارية لمحطات البث الإذاعي والتلفزيوني المحلية، وحتى الأخرى المعربة، وتغطيات بقية أجهزة الميديا العربية، مهما تعددت وتفرعت، تتمحور أساساً حول قضية واحدة تقريباً، هي قضية الصراع الدائر في المنطقة بين فرقائه المتوزعين على خريطة معروفة من التقسيمات المشدودة لكل وتر من أوتارها، الناطقة بلغة جهوية مختلفة عن الأخرى.
هنا نجد وكأن وسائطنا الإعلامية صارت مهووسة بمتابعة التفاصيل اليومية لهذا الصراع المندلع على نطاقه الواسع، والمنفلت العقال منذ زهاء سبع سنوات. وإن تغطيات هذه الوسائط تهتم بجانب واحد مرجح وتركز عليه، وهو التقاذف والتطويع القسري لمخرجات الأخبار، بإسقاط تفسيراتها وتأويلاتها الرغائبية على الوجهة التي تتخذها الأحداث.
والواقع أن أجواء التوتر المحمومة والمتصاعدة تفرض نفسها على نوعية المنتَج (بفتح التاء) الإعلامي، وتضعه في مرتبة غير منصفة حين المقارنة مع نظرائه من أجهزة الميديا في بقية أنحاء العالم. ففي مثل هذه الأجواء التي يصطخب فيها صراع الإرادات المستحضِرة لمرجعياتها العصبية المختلفة، لن يكون للنقد البناء مكان، طالما استمر اضطرام النيران داخل البيت، واستمر الفرز والاستقطاب على أشده بين قاطنيه.
من الطبيعي أن تحتل القضايا المحلية والوطنية مساحة واسعة من التغطيات الإعلامية لمختلف أجهزة الميديا في بلدان العالم قاطبة. يستوي في ذلك الإعلام المرئي والمسموع والمقروء في الدول المتقدمة، ونظيره في البلدان النامية، ومن ضمنها بلدان العالم العربي، لكن المداوم على متابعة الاثنين سيجد البون الشاسع والفاصل بينهما، وما يميز الإعلام الغربي عن الإعلام العربي.
فلسوف يجد أحيانا حجباً للمعلومة أو لمعظمها في دول العالم الثالث، فيما سيجد هناك حجباً ذكياً احترافياً لبعض المعلومة، إنما مع الالتزام العام بالموضوعية والمهنية والالتزام الجزئي بمبدأ الإفصاح من خلال السماح «بإخلاء سبيل» جزء مهم مما وفرته الوكالات والمراسلون من معلومات.
صحيح أن هناك أيضاً تركيز على الشؤون المحلية، ولكن وسائطهم الإعلامية تغطي أيضاً وبشكل مقبول واحترافي، أبرز التطورات العالمية، خصوصاً منها ذات الأثر الحالي والمستقبلي؛ المتوسط والبعيد، على موازين القوى السياسية والاقتصادية العالمية. الإعلام الغربي هو أيضاً إعلام منحاز بشكل صريح وواضح؛ لأنه يعكس بالدرجة الأساس مصالح النظام ومصالح كتلته الغربية الأكبر والمتمأسسة في إطار مؤسسات ناظمة، حيث إن الحياد في الخطاب الإعلامي هو ضرب من الخيال، ولكنه بالمقابل يحرص على احترام المهنية والموضوعية والتمكين من المعلومة، بينما يجد للأسف الشديد استفادة أقل من متابعته «للمنتج النهائي» للإعلام العربي؛ الأمر لا يتعلق بالفارق في الإمكانيات والطاقات، بقدر تعلقه بنهجين تفكيريين وإداريين مختلفين، وبثقافتين إعلاميتين مختلفتين.
ماذا يعني هذا؟.. هل يعني أن أولويات أجنداتهم تختلف عن أولويات أجنداتنا؟ ربما، وهو الأرجح على أية حال، على أساس أنه تعبير تجسيدي عن حقيقة تغاير اهتماماتنا عن اهتماماتهم، واختلاف تقديرنا لأهمية وقيمة ووزن الأحداث العالمية الجارية يومياً، على امتداد الساحة الدولية. وفي التقدير العام، فإن هذا المعطى «التفكيري الثقافي» إن شئتم سيستمر لبعض الوقت، طالما استمرت عملية الاستقطاب «العصابي» بزخمها وحدتها الراهنين.
بهذا المعنى، فإنه يمكن اعتبار المرحلة الفكرية الراهنة التي تتصدر مشهدها أجهزة الإعلام، بأنها مرحلة تشويش وبلبلة، وهي اتجاه مضاد لاتجاه التنوير الذي ساد الساحة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر، وشطراً لا بأس به من القرن العشرين.

alsayyadm@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى