إخوة متباعدون
تأليف:مها نصّار
ترجمة وعرض:نضال إبراهيم
عندما تأسست دويلة «إسرائيل» عام 1948، لم يصبح الفلسطينيون كلهم لاجئين؛ بعضهم بقي وسرعان ما حصل على الجنسية. ومع ذلك، باتوا في الدرجة الثانية في هذا البلد الجديد، الذي يسيطر عليه نظام عسكري عنصري يقيد حركتهم وتعبيرهم السياسي. على مدى عقود، تم عزل المواطنين الفلسطينيين في «إسرائيل» عن الأصدقاء والأقارب على الجانب الآخر من «الخط الأخضر»، وكذلك من العالم العربي الأوسع. من خلال هذا الكتاب، تدرس مها نصار كتابات الفلسطينيين في «إسرائيل» وكيف لعبت دوراً أساسياً في تعزيز الوعي الوطني المشترك.
في كتابها «إخوة متباعدون: مواطنو «إسرائيل» الفلسطينيون والعالم العربي» تقدم الكاتبة والباحثة مها نصّار نظرة تحليلية لواقع إشكالية بدأت مع النكبة الفلسطينية عام 1948، واستمرت كأحد أوجه الشرخ الذي حصل في المجتمع الفلسطيني وأدّى لأن يصبح قطاعا واسعا من أفراده مستبعدين من الوسط العربي الأشمل بسبب بقائهم في «الداخل» ضمن حدود «إسرائيل». وتبحث الكاتبة في متى، كيف ولماذا حصل ذلك؟
عزلة الفلسطينيين «في الداخل»
بلمحة تاريخية سريعة، فقد شكّل العرب في «إسرائيل» ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى؛ فلسطينيو ال 48 وهم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم وأصبحوا مواطنين في الدولة العبرية منذ بداية تأسيسها، وحصلوا على جنسيتها. المجموعة الثانية هم سكان مدينة القدس الذين تم ضمهم للدولة العبرية بعد عام 1967، إذ مُنحوا الإقامة الدائمة لكن من دون إعطائهم الجنسية «الإسرائيلية».
أما المجموعة الثالثة من المواطنين العرب في «إسرائيل» فهم سكان الجولان، ويشكلون مجموعة صغيرة من السكان السوريين الذين بقوا في الجولان بعد أن احتلته «إسرائيل»، ورفضوا الولاء للاحتلال، وآثروا البقاء على ولائهم لسوريا والبقاء سوريين. في وسائل الإعلام «الإسرائيلية» يشار إلى المواطنين العرب في «إسرائيل» بمصطلحي «عرب «إسرائيل» أو «الوسط العربي»، كما يستخدم أحياناً مصطلح «الأقلية العربية».
من هذه النظرة العامة لمفهوم «عرب «إسرائيل»، تنتقل الباحثة في كتابها الصادر في أواخر العام 2017 عن منشورات جامعة ستانفورد (ضمن سلسلة ستانفورد حول المجتمعات والثقافات الإسلامية الشرق أوسطية)، والذي يتألف من 288 صفحة تضم مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، لتبرز الحالة الثقافية الموازية لذلك الانقسام الحاصل في المجتمع الفلسطيني، بين من هجّروا ومن بقوا، بين من أصبح معترفاً به كفلسطيني في بلاد الشتات وفلسطيني آخر يُنظر إليه كمن انتُزعت «فلسطينيته» عنه.
من صور المعاناة التي تبرزها الكاتبة ما عاشه الشاعر الفلسطيني راشد حسين (1936-1977) الذي تعرض في غير مرة إلى مواقف تظهر نوعاً من الاستهجان والاستبعاد من طرف زملاء عرب في مهرجانات دولية، كالموقف الذي تذكره الكاتبة، في المقدمة، في المهرجان العالمي للشباب والطلبة في فيينا عام 1959. إذ كانت تلك «الاجتماعات في أوروبا والاتحاد السوفييتي من الفرص النادرة التي تتيح لقاء مباشراً بين الفلسطينيين المرتبطين سياسياً ب«إسرائيل»«ونظرائهم العرب». يومها، التقى حسين باثنين من أفراد الوفد اللبناني في أحد حانات فيينا، وقدّم لهما كأسين، وعندما شكراه وسألاه عن هويته، قال إنه «عربي من «إسرائيل»، فانفعلا عليه ووصفاه بالخائن. وهنا يثار السؤال؛ ما الذي يترتب على أولئك الفلسطينيين فعله لإثبات إخلاصهم لهويتهم ولينالوا، بالتالي، القبول من طرف «إخوتهم» العرب، بعد ما تعرضوا له كمواطنين فلسطينيين في «إسرائيل» من إبعاد ليس فقط عن أصدقائهم وأقربائهم على الجانب الآخر من الخط الأخضر وإنما عن حدود العالم العربي أيضاً. لكنهم لم يكونوا سلبيين في مواجهة تلك العزلة العميقة.
يعدّ هذا الكتاب الأول من نوعه في كشف الكيفية التي قام بها المثقفون الفلسطينيون بتكوين العلاقات عبر الوطنية وتوثيقها من خلال النصوص وانخراطها في حركات مناهضة الاستعمار المعاصر عبر العالم العربي، وتحدّوا بالتالي السياسات «الإسرائيلية» من ناحية، وعزلتهم الثقافية من ناحية أخرى.
التحول الجذري
أكّد راشد حسين، بحسب رواية الكاتبة، على عدم تعميم موقف العداء والتخوين، وقدّر أن ثمة أسباباً لذلك الموقف نابعة عن فهمٍ لابدّ من تغييره لدى الآخرين. وهو ما يقودنا إلى المقولة المحورية والرئيسة في الكتاب: «كيف حاول المواطنون الفلسطينيون تقوية العلاقات الفكرية والثقافية مع العالم العربي في الخمسينات والستينات، خلال فترة العزلة الجغرافية والسياسية؟ وكيف كان ردّ المثقفين والقادة السياسيين العرب على تلك المحاولات، وكيف تغيرت ردودهم مع مرور الوقت؟… وبشكل أوسع، ما الذي تخبرنا إياه تلك الديناميكيات التي أنتجتها النصوص المكتوبة والمنتَجة ضمن سياق عام لمناهضة الاستعمار، وما هي الأدوار التي اضطلعت بها ولعبتها هذه النصوص في خلق مفردات سياسية وحالات تضامن جديدة؟».
تدور هذه الأسئلة حول محور واحد، أرادت الكاتبة مقاربته في هذا العمل، الذي تقول إنه يقدم نظرة على «التحليل النقدي للكتابات الفلسطينية والعربية التي نشرت في الصحف والمجلات، شعراً ونثراً، بالإضافة إلى المذكرات والمجموعات الأدبية.
كما سلطت الضوء على أسئلة مهمة في سياق موضعة التاريخ الثقافي والفكري لفلسطينيي ال48، بما في ذلك مقاومتهم لسياسات الدولة والرؤية الصهيونية التي قيدتهم، ضمن سياق أعرض وأشمل من الفلسطينيين والعرب وحركات الكفاح العالمية ضد الاستعمار».
تنتقل الكاتبة في موقع لاحق للحديث عن «عزل الفلسطينيين»، وتذكر آليات «صناعة الأقلية الفلسطينية في «إسرائيل»، وتقول إن ذلك تمّ عبر «مجموعة من الأحداث التي بدأت في الفترة بين عامي 1947-1949، وهي الفترة التي تُعرف في الذاكرة الفلسطينية والعربية ب «النكبة». وخلال عدة شهور من القتال الكثيف، تمكنت القوات العسكرية «الإسرائيلية» المدعومة من الاحتلال البريطاني من السيطرة على القوى العربية التي كانت تفوقها عدداً. وكنتيجة لهذا، فقد جرى تحوّل عميق وجذري في المنظومة السكانية العربية الفلسطينية، من حالة كان يضمّ فيها ثلثي التعداد السكاني في فلسطين، إلى حالة باتت فيها مهزومة ومهجّرة ومجرّدة من أملاكها. وبهذا، فقد أصبح أكثر من نصف العرب الفلسطينيين الذين بلغ تعدادهم آنذاك 1.4 مليون نسمة مهجّرين من بيوتهم ووطنهم، ومن ضمنهم معظم النخب الفكرية والثقافية والسياسية، وسكان المدن وسكان الريف من أكثر من 400 قرية».
هنا بدأ الانقسام، بين الذين غادروا، والذين بقوا ليشكلوا أقلية صغيرة بلغت حوالي 13% داخل الدولة المتشكلة حديثاً. ليعيشوا بدورهم حالة من العزلة التي وصفها أحد كتاب «الداخل» الفلسطيني أنطوان شماس بالقول: «وضعتنا الدولة («الإسرائيلية») في عزلة اتخذت شكلين اثنين: عزلة الفلسطينيين المادية والثقافية في مواجهة المواطنين اليهود الذين امتلكوا الحرية الكاملة… وعزلة واجهها أولئك الفلسطينيون إزاء العرب الذين اتخذوا موقف المقاطعة مع «إسرائيل» ومن يرتبطون بها سياسياً أو اجتماعياً..».
استراتيجيات المقاومة
في كتابها، تعيد مها نصار النظر في هؤلاء المثقفين كفاعلين لتاريخهم، وليس كمجرد مواضيع فيه، وهي تستحضر وجهات نظرهم حول بيئة سياسية مشحونة. وبحسب ما تذكر الكاتبة تحت عنوان «استراتيجيات المقاومة»، فإنه «بغية تجاوز تأثيرات تلك العزلة داخلياً وخارجياً، فقد تبنى المثقفون ومنتجو الثقافة الفلسطينيين عدة استراتيجيات مقاومة وطوروها باستمرار.
كانت الاستراتيجية الأولى في الفترة اللاحقة لنكبة 48، حين تبنى عناصر من الحزب الشيوعي «الإسرائيلي» CPI
، بشكل خاص، استراتيجية تتلخص ببساطة بجمع الناس مع بعضهم؛ إن كان في المحافل الثقافية أو الاحتجاجات. وبسبب القيود التي فرضتها السلطات «الإسرائيلية»، وصعوبة تجميع الناس، اتجه الحزب الشيوعي «الإسرائيلي» لتبني استراتيجية ثانية أكثر فاعلية وملاءمة للظروف، تتجلى باستخدام الصحف والمجلات العربية المحلية لتحدّي المقولات «الإسرائيلية» النمطية والجاهزة، بغية إطلاع القراء على التراث الحضاري العربي والأدب العالمي، وللتعليق على الأحداث الكبرى داخل البلاد وخارجها من وجهة نظر شيوعية».
كان الاتجاه، إذاً، للكلمة المكتوبة عاملاً مهماً في تطوير هذا الموقف الذي اتبعه فلسطينيو الداخل، خاصة مع البيئة السياسية التي كانت تحمل شيئاً من التفاؤل في ما قبل فترة يونيو/حزيران 1967، لا سيما في مصر عبد الناصر والعراق. حيث إن هذه الكتابات لعبت دوراً رئيساً في تعزيز الوعي القومي والوطني.
تتابع الكاتبة بالقول إن «تلك الروح انعكست في «إسرائيل» من خلال ما فعله الشيوعيون الفلسطينيون والمثقفون من دعاة القومية العربية الذين نحّوا خلافاتهم جانباً وتبنوا استراتيجية ثالثة: تأسيس منظمات غير حزبية لتنتقد بصوت واحد سياسات العزل التي تمارسها الدولة. وللتكيف مع التوسع المتزايد في الآراء السياسية، فقد أسس أولئك المثقفون صحفاً ومجلات عربية جديدة لتقديم الآراء حول الأخبار والمجريات المحلية والإقليمية والدولية.. وحتى مع وجود بعض الاختلافات في الرأي بين الشيوعيين والقوميين، إلا أن صوتهم السياسي كان موحداً، مما ربطهم بالمجال الدولي الأوسع لمناهضة الاستعمار والدعوة لإنهائه».
وتشير الكاتبة إلى أن هذه الروابط بدأت تثير قلق المسؤولين «الإسرائيليين»، الذين اعتبروا أن امتلاك المثقفين الفلسطينيين مادة عربية مطبوعة قد يحرض «الأقلية العربية». هنا، تبنّى المثقفون استراتيجية رابعة؛ تسريب الصحف والمجلات والكتب والمجموعات الشعرية الصادرة في المحيط العربي إلى الجيل الفلسطيني الشاب المثقف. الأمر الذي تصفه الكاتبة بقولها: «كانت تلك النصوص ذات أهمية حاسمة للجيل الأصغر سناً من المثقفين الفلسطينيين الذين تلقوا التعليم في المدارس «الإسرائيلية» إذ إنها قدمت لهم رؤى ووجهات نظر بديلة تحتفي بتراثهم الثقافي والسياسي».
أُثير في تلك الفترة، بحسب الكاتبة، سؤالٌ محوري حول الدور الذي ينبغي على الأدب أن يلعبه في حشد الناس وتوجيههم نحو قضية العدالة في الداخل والخارج. وتشير إلى أن «صعود تيار الواقعية الاشتراكية والأدب الملتزم ألهم العديد من الأدباء الفلسطينيين في «إسرائيل» للتوجّه نحو استراتيجية خامسة؛ تأليف، نشر وإلقاء القصائد السياسية. وكان لمنشورات الحزب الشيوعي «الإسرائيلي» دور مركزي في نشر هذه الأصوات التي دعت إلى التضامن.. وظهر الشعراء الفلسطينيون الشباب مثل محمود درويش وسميح القاسم ليسيطروا على المشهد الأدبي في الستينات، حيث لم تكتف قصائدهم بلعب الدور الفاعل في تعزيز الوعي القومي المشترك بين الفلسطينيين في «إسرائيل» فحسب، وإنما سيكون لهذين الاسمين لاحقاً دورٌ أوسع في استنهاض العرب عموماً للدفاع عن قضاياهم. وكان دوريش والقاسم جزءاً من جماعة أصغر من المثقفين الفلسطينيين التواقين للوصول إلى جمهور خارج الدولة».
قوة النصوص والمواقف
على الرغم من هذه الارتباطات العميقة بالتطورات الإقليمية والعالمية، إلا أن المساهمات التي أسهم فيها المفكرون الفلسطينيون في «إسرائيل» ضمن مناقشات سياسية وثقافية أوسع نطاقاً، نادراً ما وصلت إلى الجمهور، في تلك الفترة، خارج الخط الأخضر. لذا، وللتغلب على هذه العقبة، ولإيصال كفاحهم المشترك مع الفلسطينيين في المنفى، فقد أرسل المفكرون رسائل مفتوحة ومذكرات إلى الهيئات الدولية. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى المذكرة التي أصدرتها المجموعة القومية العربية «الأرض» في عام 1964، والتي لعبت دوراً مهماً في رفع مستوى الوعي بين الفلسطينيين وبعض المثقفين العرب حول محنة الفلسطينيين داخل «إسرائيل».
وتشير الكاتبة إلى الأزمة التي حدثت في «إسرائيل» صيف عام 2016 بعد أن عرضت إذاعة الجيش «الإسرائيلي» قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش «بطاقة هوية»، إذ إن تلك القصيدة، بعد عقود من كتابتها «لا تزال تثير الجدالات الثقافية والسياسية في البلاد. وهو ما دفع وزيرة الثقافة اليمينية المتشددة ميري راجيف لانتقاد القائمين على الإذاعة علناً، بسبب تقديمهم» منبراً للرواية الفلسطينية التي تعارض وجود «إسرائيل» كدولة ديمقراطية مستقلة. وبالنسبة لنصار، فإن قوة هذا النصّ تجاوزت الزمن لكونه لا يزال قادراً على التأثير في المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومن هنا تأتي قوة النصوص الأدبية التي أنتجها الشعراء الفلسطينيون الذين لم يساوموا على فلسطينيتهم، حتى مع وجود التحديات والعوائق أمام وصولهم إلى المحيط العربي الأوسع، والاندماج في الحركة العالمية لمناهضة الاستعمار.
نبذة عن الكاتبة
تشغل الباحثة والكاتبة مها نصار منصب أستاذ مساعد لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة أريزونا. حصلت على العديد من الشهادات الأكاديمية، أبرزها الدكتوراه بدرجة الشرف في حضارات ولغات الشرق الأدنى من جامعة شيكاغو عام 2006. يعدّ كتاب «إخوة متباعدون: مواطنو «إسرائيل» الفلسطينيين والعالم العربي» كتابها الأول، وتعمل حالياً على مشروع جديد يركز من ضمن محاوره على المرأة العربية في «إسرائيل».