إشكالية تعطيل الحكومة اللبنانية
د. ناصر زيدان
منذ ما يقارب ستة أشهر يعيش لبنان من دون حكومة؛ لأن الحكومة الحالية تُعتبر مستقيلة حُكماً منذ تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية التي حصلت في 6 مايو/أيار 2018. ووفقاً للدستور يُجري رئيس الجمهورية مشاورات نيابية مُلزمة تشمل كل النواب، وعلى ضوء نتائج هذه الاستشارات يكلف الشخصية التي تنال تأييد أكبر عدد من النواب لتأليف الحكومة ورئاستها، لكن الدستور ذاته يقول إن تعيين الوزراء الذي يصدر بمرسوم جمهوري، يحصل بالتفاهم بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف.
ومنذ اتفاق الطائف الذي عُدّل بموجبه الدستور في العام 1990، أصبحت السلطة التنفيذية في لبنان مُناطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، وليس برئيس الجمهورية كما كانت قبل هذا التعديل، مما أضفى تعقيداً على عملية تأليف الحكومة؛ كون المشاركة فيها تعتبر مشاركة فعلية في إدارة البلاد، على اعتبار أنها مؤسسة لها استقلاليتها وكيانها، وليست جهازاً إدارياً مساعداً لرئيس الجمهورية كما كانت قبل اتفاق الطائف. كما أصبحت للوزير مكانة ثابتة إلى حدٍ ما، فلا يمكن لرئيس الجمهورية أو لرئيس الحكومة إقالته عندما يشاء أحدهما؛ بل إن إعفاءه يتطلب موافقة ثلثي مجلس الوزراء.
منذ ما يقارب ستة أشهر يعيش لبنان فراغاً حكومياً إلى حدٍ ما؛ ذلك أن تصريف الأعمال الذي يطلبه رئيس الجمهورية من الحكومة بعد استقالتها، لا يشمل القيام بأي من الأعمال السيادية مثل اتخاذ القرارات أو فتح الاعتمادات المالية، أو إجراء أي تعيينات في مؤسسات الدولة، وهي لا تجتمع إلا لضرورة مواجهة حالة طوارئ غير طبيعية أو أمنية أو سياسية.
لا توجد أية إشارة في الدستور اللبناني تُحدد المهلة الزمنية أمام الرئيس المكلف ليشكل ضمنها الحكومة كما في العراق مثلاً 30 يوماً ولا يوجد في الدستور ما يمكن أن يعطي الحق لرئيس الجمهورية في سحب التكليف من رئيس الحكومة (كما في فرنسا أو مصر على سبيل المثال)، وعدم الإشارة في الدستور إلى هذه المقاربات، ليس إغفالاً تشريعياً؛ بل هو من صلب عملية تقاسم السلطة في لبنان الموزَّعة على ممثلي الطوائف من خلال أعراف ثابتة، بحيث إن رئاسة الحكومة يجب أن تُناط بأحد أبناء المكوِّن السني، ووضع شروط أمام رئيس الحكومة لمصلحة رئيس الجمهورية، يعتبر بمثابة التقويض لصلاحياته، لحساب توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني عرفاً.
لا يمكن التقليل من شأن إبقاء البلاد من دون حكومة فعلية لمثل هذه الفترة الطويلة، وغير المحددة الأفق. كما أن إشكالية الإخلال في التوزيع الدقيق للصلاحيات السيادية التي أسندها اتفاق الطائف في كل من المواقع الأساسية في الدولة، مسألة في غاية التعقيد، وقد يؤدي مثل هذا الإخلال إلى اضطرابات ذات طابع طائفي غير محمود.
تبرز أكثر فأكثر مع الوقت ظاهرة امتلاك بعض القوى، قدرة على تعطيل سياقات دستورية، أو سيادية، من دون أن يكون لها هذا الحق في الدستور. وعلى سبيل المثال، يمكن إدراج عملية تعطيل تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة في هذا السياق.
الدستور اللبناني أشار في مقدمته إلى أن الميثاقية ضرورة وطنية، ولا سلطة تعلو فوق إرادة العيش المشترك، وهذا الأمر بطبيعة الحال فرض فيتو غير مكتوب يستخدمه أي من ممثلي الطوائف في البرلمان على تشكيل الحكومة، بواسطة الامتناع عن المشاركة فيها، بمعنى أن امتناع أي مكون طائفي عن المشاركة في الحكومة يُفقدها الميثاقية، وبالتالي يتعثر عملها فعلياً.
القانون الذي جرت بموجبه انتخابات مايو/أيار الماضي، أعطى قوة لهذه المقاربة الميثاقية؛ لأنه أفرز ممثلين للطوائف في البرلمان أكثر مما أفرز ممثلين للشعب عامة، وبالتالي أصبح لعدد من الطوائف تمثيل حصري، يمكن إذا ما تمنعت عن المشاركة في الحكومة، أن يُفقد هذه الحكومة ميثاقيتها.
وهذه النتيجة التي أفرزتها الانتخابات كانت واضحة عند ممثلي الطائفة الشيعية، أكثر من غيرها من الطوائف، بحيث تقاسم مقاعد الطائفة أعضاء من حركة أمل و«حزب الله» تقريباً، والفريقان لا يختلفان في القضايا الكبيرة منذ ما يزيد على 15 عاماً.
وبالتالي، فإن تهديد «حزب الله» بعدم الدخول في الحكومة الحالية إذا لم يُمثّل فيها نواب سنة مقربون منه، يفضي إلى عدم دخول حركة أمل إلى الحكومة؛ لأن الحركة لا تتخلّى عن «حزب الله» بالمفاصل الاستراتيجية.
الفراغ الحكومي في لبنان يُعتبر من إشكاليات الخصوصية اللبنانية الخانقة، حيث كثير من الحريات وقليل من الممارسات الديمقراطية.