إعادة النظر في روسيا
تأليف: ماثيو كروسستون
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
بفضل سنوات خبرته في الدراسات الروسية، يعاين الدكتور ماثيو كروسستون، عن قرب الجوانب العديدة للعلاقات الخارجية المتوترة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي، ويسعى إلى إزالة بعض الصور التقليدية النمطية، وتقديم منظور جديد، عبر التخلص من الخطاب السياسي والإعلامي الحالي واستبداله بصوت الأمل والعقلانية بين الدولتين.
يقر كروسستون، في عمله هذا بالبراجماتية والمصالح الذاتية والجوانب غير الأخلاقية للسياسة الخارجية الروسية، إلا أنه يرى أن هذا الوضع المتوتر دائماً يُنظر إليه من خلال عدسة غير أخلاقية وغير سياسية وغير متحيزة، وهو نهج مثير للجدل في بلد نظر مواطنوه إلى روسيا، الاتحاد السوفييتي السابق، بعدسة الأبيض والأسود، وأنه شر مطلق لعقود عدة. الكتاب صادر في أواخر 2018 عن دار «براون بوكس بابليشينغ غروب» ضمن 409 صفحات باللغة الإنجليزية.
بين التنسيق والاستنكار
تميزت العلاقات الروسية مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة، بطابع التضارب على نحو متزايد خلال العقد الماضي عند اتخاذ روسيا موقفاً أكثر حزماً وتحدياً للهيمنة الأمريكية على الصعيدين العالمي والإقليمي. في هذا السياق أشار بعض المراقبين إلى تطور التوترات بين روسيا والغرب كنوعٍ من حرب باردة جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمكن القيام به لتجنب تصعيد الصراع أو تفادي الوصول إلى طريقٍ مسدود؟ فيما يرى آخرون أن انعدام الاستقرار السياسي خلال العقد الذي تلا الحرب الباردة يعود إلى الخلل الكبير في الموازين الدولية، كتوسع الحوكمة العالمية ونظامها الأمني، ما يجعل الدول تتكيف مع مجال الدفع غير المتكافئ إلى حدٍ كبير مع اقتصادها.
وقد نتج عن ذلك تنافس الأفكار والقيم وسبل التنمية، وإلى حدٍ كبير بين المبادئ الليبرالية العالمية والقومية لإدارة النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يزال البعض الآخر يفكر في تغيير القوة العالمية والطابع المتقلب للنظام الدولي المعاصر، والذي يعمل تدريجياً على صياغة توقعات وتوجهات جديدة لسلوك الدولة والنظام.
وبينما تستمر الولايات المتحدة في إبراز مكانتها وفرض هيمنتها على العالم، يُعتقد بأن روسيا والدول الأخرى غير الغربية تسعى إلى إيجاد مكانة مناسبة لها في النظام العالمي المتطور.
أساساً، يبقى النظام الدولي هو الميدان المرن للغاية لامتداد الهيمنة الأمريكية، نظراً لمزايا البلاد القوية التي لا تقارن بغيرها من النواحي السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
إن البلدان الأخرى بما فيها روسيا ليست لها مصلحة، وهي ليست في وضع يسمح لها بإطاحة النظام العالمي بسبب الهوة الواسعة في القدرات الموجودة.
ومع ذلك، فإن العالم يتغير من وجهة النظر هذه المتمركزة في أمريكا. فتعمل روسيا ودول أخرى على تطوير رؤية للسياسة العالمية وترعى استراتيجية براجماتية، بالاستناد إلى المصلحة الوطنية المتوافقة مع هذه الرؤية: التنسيق مع الغرب عند الضرورة، والاستنكار عند حتمية النزاع.
فهم العلاقة الروسية-الأمريكية
في هذا العمل القائم على البحث، يقدم الدكتور ماثيو كروسستون، مقاربة رائعة ومبتكرة لدراسة العلاقات الدولية، والسياسة الروسية، والسلطة، والسياسة الخارجية من خلال عدسة دراسات الأمن القومي والاستخبارات. وهو يتحدى الكثير من المفاهيم المعيارية والتعليقات، وبدلاً من ذلك يشكك في الافتراضات حول السلوك الدولي الروسي والسياسة الخارجية التي تعتبر في كثير من الأحيان بديهية، ويدعو الباحثين التقليديين في الدراسات الروسية بالتكرم والاستعداد لتقديم المزيد من وجهات النظر البديلة الأقل تركيزاً على الولايات المتحدة.
وتقول البروفسورة لادا كوتششيفا، من جامعة ولاية نورث كارولينا في تمهيدها للكتاب: «إن وجهات نظره الشجاعة المخالفة والمثيرة للاهتمام ليست بجدلية أو لاذعة النقد؛ وهي تستند إلى تحليلٍ مستفيض للحقائق التجريبية التي قلما لاقت الاهتمام الكافي أو تم تجاهلها تماماً من قبل العديد من وسائل الإعلام الغربية والأوساط الدبلوماسية والأكاديمية».
وتضيف: «يقدم لنا الكتاب بحثاً متوازناً ومحفزاً للتفكير في العلاقات الروسية- الأمريكية، من خلال تسليط الضوء على بعض الحجج الأكثر أهمية وإثارة للجدل. ويقدم أيضاً ملتقى مهماً لمجموعة من المؤلفين المساهمين مما يسمح للقراء برؤية المزيد من الخفايا والفروق الدقيقة في هذه العلاقة».
«تتمثل رغبة المؤلف في أن يعمل هذا الكتاب كمنصة لبدء وتسهيل حوار جديد ومفتوح حول النظام الدولي والتحديات الناشئة داخل هذا النظام، والتحديات بين الجهات الفاعلة فيه؛ وهو تغيير مرحب به ومطلوب من خلال تأكيد بشكلٍ فعال الفرص للتغلب على النظرات الخاطئة في فهمنا للعلاقات الروسية الأمريكية. يوضح لنا كروستون كيفية تحسن هذه العلاقات بطريقةٍ ما؛ بحيث تركز هاتان القوتان الرئيسيتان على القضايا ذات الاهتمام المشترك والتفاوض معاً بطريقة غير تصادمية».
يحاول المؤلف في هذا العمل بيان مدى التعقيد الشديد في العلاقات الروسية – الأمريكية المتقلبة غير التقليدية والتي بطبيعتها غير تقليدية، ولا يمكن التنبؤ بها في الوقت الراهن. وهذه نقطة مهمة يجب توضيحها لأن معظم التغطية الأكاديمية والإعلامية والحكومية لهذه العلاقات هي بالتأكيد «تقليدية».
ويعلق الكاتب: «ما أعنيه بذلك هو ما تم توثيقه خلال هذا العمل: بأن العديد من الخبراء في روسيا يرفضون اليوم الاعتراف بتصوراتهم المسبقة حول هذا الموضوع، والاعتراف بوجود تحيز متأثر بشكلٍ كبير بالمخلفات النفسية والآثار المتبقية للحرب الباردة. والنتيجة النهائية لذلك هي أننا نتناول العلاقات الروسية -الأمريكية بتصنيفٍ صارمٍ للغاية ذي حدين، ازدواجية الأبيض والأسود».
«هذا الكتاب ليس مناشدة لعكس هذا المسار: فلا أحد يحاول أن يقول أن روسيا ملاك وأن أمريكا هي الشيطان. إنه بالأحرى مطلب للسماح للعقلانية بالدخول في هذه المناقشة المعاصرة: فالموضوع ليس أسود أو أبيض بل أنه كظل موسوم باللون الرمادي».
مناقشة القضايا المعقدة
«إن هذا الأمر يتسم بأهمية كبيرة لأنه سيعيد المشاركة الروسية – الأمريكية على قدم المساواة، ويعكس كيف أن أمريكا تتعامل إلى حدٍ كبير مع كل القضايا المعقدة على مستوى السياسة الخارجية في جميع أنحاء العالم: هل يمكن للمرء القول إن المصالح الأمريكية والصينية فعلاً تتماشى بشكلٍ كامل؟ ماذا عن المصالح الأمريكية والسعودية؟ من الواضح أنها ليست كذلك، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تنخرط بفاعلية وتعمل مع كلتا الدولتين بشأن القضايا التي تعزز المصالح المتبادلة. يبدو أن روسيا وحدها عُوملت بهذه الازدواجية غير المجدية وغير المنطقية فعند النظر إلى حجم المصالح الأمنية المشتركة بين أمريكا وروسيا نرى من الأهمية بمكان نبذ فكرة التحديد المسبق لقضية الحرب الباردة التقليدية والسماح للعلاقة بالتكيف والمرونة والتطور وفقاً للواقع الحالي. الفشل في القيام بذلك لا يقتصر على إضاعة الفرص فحسب بل أنه وبكل معنى الكلمة يعرض المجتمع الدولي بأكمله للخطر».
«إن الجهد المبذول للتغلب على هذه العقيدة يقع أولاً وقبل كل شيء على عاتق المجتمع الأكاديمي، لأنه المزود الأكثر قوة للمشكلة. فليس من قبيل الصدفة أن تجد الأغلبية العظمى في قائمة المصادر بنهاية هذا الكتاب مملوءة بالأعمال المصممة والمكتوبة بشكل هادف لتدعو روسيا الحديثة إلى تقليد الاتحاد السوفييتي القديم. والخطوة الأولى للتخلص من مشكلة ما هو الاعتراف علناً بها. مرة أخرى هذا لا يعني أن روسيا بعيدة عن الملامة أو لا تعمل وفقاً لمصالحها الوطنية. بالطبع هي تعمل! كما يعمل أي بلد آخر في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. ولا يعني الاعتراف بهذا أن التضافر والمشاركة والتعاون الإيجابي، أمر مستحيل. كما لا يعني أنه أمر مستحيل بالنسبة للصين وإيران والسعودية ومصر وبولندا، وغيرها».
وهنا السؤال المطروح: لماذا ينبغي إعطاء روسيا وضعاً سلبياً خاصاً عند إمكانية الاستفادة من العديد من الفرص الإيجابية المستقاة من هذا الانعكاس الموضوعي البسيط للشؤون الخارجية المعاصرة؟ كانت الحرب الباردة حدثاً كبيراً مؤثراً في التاريخ. ولكن عدم السماح لروسيا بالمضي قدماً لما بعد ذلك لإجراء تحليل للبنية الموجودة في مسعاها الدائم لاستعادة مجدها السوفييتي، يعني أننا لا نقيد روسيا فحسب بل نقيد أنفسنا ومصالحنا الأمريكية. وهذا يجب أن يتوقف. قد يكون هذا العمل هو الخطوة الأولى نحو حل»شكل العلاقات المتعارف عليه. وإذا ما حدث ذلك فعندها نكون قد أدركنا عن كثب مدى أهمية الحرب الباردة بامتياز طوال تلك المدة.
التدخل الروسي في الانتخابات
«يقودنا هذا الشيء إلى وجود مشكلة أكبر يتجنب الجميع مناقشتها ومعالجتها، وهي قضية التواطؤ بين الرئيس ترامب والاتحاد الروسي. توجد بعض الأجزاء في هذا العمل والتي تعالج بعض القضايا الأولية الحاسمة، لكن حقيقة الأمر أنه حتى كتابة هذه السطور، فإن القضية لم تنته بعد. لذا فإن مطلبي الخاص في الوقت الحالي هو الكتابة عنها فقط بطريقةٍ تدوم طويلاً ولن يتجاوزها الزمن على الفور، بغض النظر عن احتمال ظهور مفاجأة أخرى. ذلك ليس بالمهمة السهلة. لكن لا تزال هناك بعض العناصر الأساسية والتي باعتقادي لا تحتمل النقاش وينبغي تأكيدها تماماً لأنها حقائق تم استبعادها أو تم تشويهها من قبل العقيدة المعادية لروسيا».
«يوجد شيء متناقض في الطريقة التي نميل بها إلى تصوير روسيا كدولة شريرة، وبنفس الوقت، الساذجة العاجزة عن تنفيذ استراتيجية مقنعة. علينا أن نقرر مرة واحدة وبشكلٍ حاسم ما إذا كانت الهجمات الإلكترونية الروسية على الولايات المتحدة في الواقع هجمات بالغة التعقيد غيرت النتائج الحقيقية للانتخابات الرئاسية أم كانت مجرد بعض عمليات القرصنة الخرقاء والعامة التي أدت إلى إصدار رسائل بريدية عادية، الأمر الذي ربما كان محرجاً للبعض إلى حدٍ كبير، لكنها في الواقع لم تغير مجرى التاريخ أو تؤثر في الانتخابات الأمريكية. ولو كنت باحثاً في كيفية تصوير وسائل الإعلام لهذه القصة وتغطيتها حالياً، لوجدت أن هذا ما كان وما زال ما هو عليه: كلاهما».
«لم تكن جهود القرصنة الروسية تتعلق بضمان الفوز لترامب بالقدر الذي كانت تتعلق بإهانة الرئيس وإذلال أو تحذير الرئيس المقبل هيلاري كلينتون. قد يكون استخلاص العبر من التاريخ بشكلٍ متأخر أمراً خطيراً للغاية، لاسيما في الانتخابات الرئاسية. أتحدى أي شخص ليخبرني في ليلة الانتخابات أنه توقع تماماً فوز ترامب. وإذا توقع كل شخص يراقب الانتخابات خسارة ترامب، فلماذا تتوقع قوة أجنبية بشكلٍ مختلف؟ كانت القرصنة الروسية تتعلق بالوزيرة كلينتون أكثر بكثير مما تتعلق بالرئيس ترامب. وأريد بذلك لتكون بمثابة ثقل موازن لدور الرئيس المتوقع الجديد والذي أعلن رسمياً بأنه ليس الصديق المفرط التودد لروسيا. لذلك إذا كان المقصود من القرصنة بحد ذاتها هو تشويه الرئيس المرتقب هيلاري كلينتون، فمن غير المناسب، تحوير الجهد المبذول إلى سياسة الشر التي قوّضت النظام الهيكلي الكامل للديمقراطية الأمريكية، وذلك بعد ستة أشهر من الزمن. إن القيام بذلك لا ينم إلا عن ارتفاع مستويات من الهستيريا وحالة من النزيف داخل قفص الإعلام».
حتى يُثبت عكس ذلك، سأتخذ موقف الاعتقاد (بناء على دراستي وخبرتي الحياتية مع هذا البلد)، بأن روسيا لم تتواطأ مع ترامب للفوز في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وهذا الموقف غير قائم على أي إحساس بالصواب الأخلاقي أو لاعتباراتٍ سياسية من جانب الروس. على العكس من ذلك، بالنظر إلى التعاملات التجارية الواسعة النطاق التي قام بها ترامب في روسيا، من المعقول التخمين بأن روسيا قد عرفت منذ زمنٍ طويل نوع شخصيته وحقيقة شخصه. لهذا من المنظور الروسي، يمكن القول إن الكرملين يجد السيد ترامب شخصاً لا يمكن الاعتماد عليه وغير جدير بالثقة بما يكفي لمحاولة بناء علاقة تعاون، متبادلة المنفعة، طويلة الأمد.