جديد الكتب

إمبراطوريات الضعفاء

تأليف: جي.سي شارمان

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

كيف كان صعود الغرب استثناءً مؤقتاً للنظام العالمي المهيمن؟ ما الذي يفسر نهوض الدولة، وإنشاء أول نظام عالمي، وهيمنة الغرب؟ تؤكد الإجابة التقليدية أن التكنولوجيا والتكتيكات والمؤسسات المتفوقة التي أقامتها المنافسة العسكرية أعطت الأوروبيين ميزة حاسمة في الحرب على الحضارات الأخرى من عام 1500م فصاعداً. يشير هذا الكتاب إلى أن الأوروبيين لم يكن لديهم في الواقع تفوق عسكري عام في أوائل العصر الحديث. لكن كيف؟

كان الأوروبيون يشعرون بالرهبة من الإمبراطوريات الشرقية العظيمة في ذلك اليوم، والتي كانت رائدة في الابتكارات العسكرية الرئيسية وكانت تقوم بالغزوات منذ فجر التاريخ. وعلى ضوء الرأي القائل بأن الأوروبيين حققوا فوزاً دائماً، يؤكد شارمان أن إمبريالية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت تطوراً عابراً وشاذّاً نسبياً في السياسة العالمية انتهت بخسائر غربية خلال تمردات مختلفة. وإذا كان للقرن الحادي والعشرين أن تهيمن عليه قوى غير غربية مثل الصين، فإن هذا يمثل عودة إلى القاعدة السائدة في العصر الحديث.

يتوقف الكتاب عند فكرة أن أوروبا حكمت العالم بسبب الهيمنة العسكرية، وأن صعود الغرب كان استثناءً في النظام العالمي السائد. يعلق الكاتب على ذلك قائلاً: «إن التوسع الأوروبي من نهاية القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر قد دفع العالم إلى إنشاء أول أنظمة سياسية واقتصادية عالمية حقيقية. وقد بدأ ذلك برحلات شبه متزامنة عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وجنوباً وشرقاً حول ساحل إفريقيا، عبر المحيط الهندي إلى آسيا بواسطة مستكشفين مثل كريستوفر كولومبوس وفاسكو دا جاما».

ويضيف: «غالباً ما يقال إن النمو اللاحق للوجود الأوروبي عبر المحيطات كان نتيجة لقوة عسكرية متفوقة: أسلحة أفضل، ومنظمات أفضل لاستخدامها، وهي تعرف باسم أطروحة الثورة العسكرية التي تفيد أن التوسع كان في المقام الأول نتيجة للجيوش والدول التي تفوقت على المعارضين في الخارج، لأن الأوروبيين كانوا أكثر تكيفاً مع متطلبات الحرب، بعد أن نجوا وتعلموا من المنافسة الشرسة في الداخل. يعتمد ذلك على افتراض أن المنافسة تنتج منظمات أكثر كفاءة تتكيف بشكل أفضل مع بيئتها، وذلك بفضل مزيج من التعلم العقلاني والاختيار الدارويني».

تشكيك في الرواية الغربية

في هذا الكتاب، يشكك المؤلف في كل عنصر من عناصر هذه الرواية، ويقترح شرحاً بديلاً، ويشير إلى أن الأوروبيين لم يتمتعوا بأي تفوق عسكري كبير في مواجهة المعارضين غير الغربيين في بداية العصر الحديث، حتى في أوروبا. كان التوسّع بمنزلة قصة عن الاحترام والتبعية الأوروبيين، بقدر ما كانت قصة الهيمنة. بدلاً من جيوش الدولة أو قوات البحرية، كان في طليعة التوسع عصابات صغيرة من المغامرين أو الشركات المأجورة التي اعتمدت على رعاية الحلفاء المحليين. وكان من العوامل الأساسية لنجاح الأوروبيين وبقائهم وجود استراتيجية بحرية تجنبت تحدي الأولويات البرية للسياسات المحلية، وحدوث الأوبئة في الأمريكتين تسبب في كارثة سكانية. «كان أعظم الغزاة وبناة الإمبراطورية في أوائل العصر الحديث في الواقع إمبراطوريات آسيوية، من العثمانيين في الشرق الأدنى، إلى المغول في جنوب آسيا، ومينغ ومانشو تشينغ في الصين. يساعد إبداء الاهتمام الواجب لهذه القوى العظمى في تصحيح مركزية أوروبا التي غالباً ما كانت متحيزة في الدراسات السابقة، وتثير تساؤلات حول قصص السبب والنتيجة التقليدية بشأن شن الحرب وصنع القوانين». يتناقض هذا المنظور البديل مع النظرة التقليدية للتوسع الأوروبي باعتباره مجهوداً موجهاً من قِبل الدولة، ويستند إلى استخدام نفس التكتيكات والتكنولوجيا كما في الحرب بين الأوروبيين. وهو يشكك في فكرة وجود صلات قوية بين السبب والنتيجة بين الأسلحة الجديدة والتكتيكات والجيوش الكبيرة الدائمة وصعود الدولة ذات السيادة. على نطاق أوسع، فإن الحجة المطروحة هنا تتناقض وتحل محل نموذج المنافسة العسكرية التي تنتج منظمات قتالية فعالة ومتكيفة من خلال مزيج من التعلم والإقصاء».

إن أهمية العملية التي تم بها إنشاء أول نظام عالمي واضحة من نواحٍ كثيرة. فقد كانت الحضارات القديمة والمعزولة في السابق على اتصال منتظم مع بقية العالم،؛حيث كانت هناك حركة للناس والبضائع والأفكار في جميع أنحاء العالم لأول مرة، مما أدى إلى تغيير المجتمعات والبيئة عقب ذلك.

نظام خارج السيطرة

«لقد كان لدينا نظام دولي مرتبط منذ حوالي 500 عام، وهي فترة غالباً ما تُعتبر مرادفة لعصر الهيمنة الغربية. والافتراضات التي دعمت دراسة النظام الدولي والنظريات التي تم تطويرها لتفسيرها تبدأ من فرضية الهيمنة العسكرية والسياسية الغربية. ولكن في الواقع، لأكثر من نصف الوقت كان هناك نظام عالمي، لم يسيطر عليه الغرب».

«على النقيض من ذلك، فإن الدول الأوروبية كانت ضعيفة مقارنة بالقوى العظمى الآسيوية مثل إمبراطوريات المغول أو مينغ وتشينغ الصينية من حيث عدد السكان والثروات والقوة العسكرية. وحقيقة أن هذا لم يتم الاعتراف به في كثير من الأحيان يوضح مدى تشويهنا العميق للتطور التاريخي للسياسة الدولية، وله انعكاسات كبيرة على فهمنا للماضي والحاضر والمستقبل. إن التحيزات في المكان والزمان لم تبالغ في تقدير أهمية القوى الأوروبية بشكل منهجي فقط، بل قللت من أهمية تلك الموجودة في مناطق أخرى، كما أنها حددت أيضاً طريقاً حاسماً واحداً لتطوير المؤسسات العسكرية باعتبارها تشكل القاعدة التاريخية».

«تاريخ الحرب أمر حاسم باعتباره المادة الخام لتوليد واختبار العديد من نظريات العلوم الاجتماعية. والقوة العسكرية هي المحدّد النهائي في السياسة العالمية. تشكّل أطروحة الثورة العسكرية التي تقول إن الحروب المتكررة بين القوة العظمى دفعت إلى الابتكار العسكري وبناء الدولة في أوروبا، والتي أعطت هذه الدول فيما بعد ميزة تنافسية استخدمتها للسيطرة على الأنظمة السياسية غير الأوروبية، حجر الأساس للكثير من العلوم الاجتماعية ذات التوجه التاريخي. فقد قدمت لنا فهماً لصعود الدولة ذات السيادة ونظام الدولة الحديثة. ولذلك نجد العلماء يهتمون بشكل متزايد بصعود وسقوط الأنظمة الدولية».

«المقدار الذي نعتقد أننا نعرفه عن الطريقة التي تعمل بها السياسة الدولية هو في الحقيقة منظور ضيق أوروبي مركزي حول الطريقة التي تعمل بها السياسة الدولية الغربية. ولدى أوائل العصر الحديث القدرة على الإجابة عن هذا السؤال بشكل فريد».

منظور تاريخي

«من المنظور التاريخي التقليدي لعصر «كولومبوس» أو «فاسكو دا جاما» للهيمنة الأوروبية التي يقودها الجيش، فإن احتمال وجود نظام عالمي لا يهيمن عليه الغرب، أثارته المخاوف بشأن القوى الناشئة مثل اليابان، أو الصين مؤخراً والهند، لم يسبق له مثيل تاريخياً، وهو قفزة في المجهول. كما أن وضع قوى آسيوية حديثة في سياقها الصحيح من شأنه أن يجعل هذا العالم المستقبلي يبدو أقل إثارة أو غرابة؛ وربما سيكون هناك عودة إلى القاعدة التاريخية بعد فترة قصيرة نسبياً من عدم التوازن. هذه هي إحدى الطرق التي يمكن من خلالها تغيير وجهات نظرنا حول الماضي، ويمكن أن تغير وجهات نظرنا عن الحاضر والمستقبل بشكل أساسي». عند النظر إلى الطريقة التي يروي بها التاريخ نظرياتنا عن كيفية عمل السياسة الدولية عبر الزمن، يقدّم الكاتب بعض الأفكار حول العلاقة بين تخصصات التاريخ والعلوم الاجتماعية. ويرى أن الخلاصة الرئيسية هي أن المؤرخين وعلماء الاجتماع يتشاركون في آراء متشابهة في الأغلب. ويؤكد أيضاً على ما يمكن للعاملين في العلوم الاجتماعية، وخاصة العلاقات الدولية والعلوم السياسية، أن يتعلموه من أعمال المؤرخين الأخيرة حول العلاقات بين الأوروبيين والحضارات الأخرى في إفريقيا وآسيا والأمريكتين لتحل محل أطروحة الثورة العسكرية. وأي جهد لفهم موضوع ضخم مثل إنشاء وعمل النظام العالمي الحديث يتطلب اطلاعاً على رؤى التخصصات المختلفة.

يشير الكاتب إلى أنه في كل النقاش الحاصل حول ذلك، قام عدد قليل من العلماء في وقت سابق باختبار الادّعاء بأن الثورة العسكرية ترتكز على الاستعمار الأوروبي. لكن إلى أي مدى وفرت الابتكارات العسكرية الأوروبية في الفترة ما بين 1450 و 1700 للأوروبيين بالفعل ميزة في الحرب؟

أطروحة الثورة العسكرية

يقدم المؤلف في الفصول الثلاثة من العمل أدلة توضح أن أطروحة الثورة العسكرية ببساطة لا تتلاءم مع أدلة الفتوحات الإسبانية في العالم الجديد، أو حتى البرتغالية والهولندية والإنجليزية في آسيا وإفريقيا. بادئ ذي بدء، كانت أساليب الحرب التي استخدمها الأوروبيون في الخارج مختلفة تماماً تقريباً عن الأساليب التي استخدموها في بلادهم. وباستثناء حالات نادرة، لم تتناسب التكتيكات ولا الجيوش ولا المنظمات مع أطروحات الثورة العسكرية وحرب القوة العظمى في أوروبا.

يقول الكاتب: «إن إطلاق النار على أيدي الفرسان الذين أصبحوا يسيطرون على الحرب في أوروبا الغربية والوسطى لم يستخدم في أي مكان آخر. فبدلاً من الجيوش الضخمة المنتشرة في أوروبا، تم التوسع في العالم الأوسع عبر قوات لحملات صغيرة. علاوة على ذلك، في معظم الحالات، كانت هذه القوات خاصة بشكل محدّد، حيث كانت عصابات من المغامرين أو «أصحاب الشركات المأجورة». وكانت الظروف المختلفة في المواقع المختلفة تستدعي ردوداً مختلفة، مما قوض فكرة وجود طريقة أوروبية واحدة للحرب».

والأهم من ذلك، بشكل عام، لم يكن هناك تفوق عسكري أوروبي عام على الحضارات الأخرى في هذه الفترة. حقق الغزاة انتصاراتهم الأكثر شهرة في الأمريكتين بفضل مزيج من حدوث الأوبئة والحلفاء المحليين ومواد الصلب البارد، بينما الهزائم الأقل شهرة تكذب أسطورة جيوشهم التي لا تقهر. وثبّت الأوروبيون أقدامهم في إفريقيا عن طريق الحكام الأفارقة. في مناسبات نادرة، تحدى البرتغاليون وغيرهم الحكومات الإفريقية في الحرب قبل عام 1800، فقد كانوا يتعرضون للخسارة عموماً. واعتمد الأوروبيون موقفاً عاماً من الاحترام والتبعية لإمبراطوريات آسيا الأكثر قوة بشكل واضح، من بلاد فارس، إلى المغول، إلى الصين واليابان.

مرة أخرى، كان البرتغاليون، والهولنديون، والإنجليز، والروس جميعهم على الطرف الذي يتلقى الهزائم الحادة في الحالات الاستثنائية التي اشتبكوا فيها مع هذه الإمبراطوريات. أخيراً، في أوروبا وفي البحر الأبيض المتوسط، قاتل الأوروبيون للصمود في وجه العثمانيين، لكنهم شعروا بخيبة أمل ثابتة في مشاريعهم العسكرية في شمال إفريقيا.

في ختام الكتاب يقول الكاتب: «إن النظام العالمي متعدد الأقطاب هو النمط السائد عبر التاريخ أكثر مما هو استثناء. وعلى الرغم من أن التوقعات صعبة، خاصة حول المستقبل، وتحديداً لعلماء الاجتماع، لكن إذا ما أصبحت الصين والهند من أعظم القوى في القرن الواحد والعشرين، فهذا يعني بأشكال عديدة العودة إلى الوضع القائم في فترة 1700 للميلاد. الأسئلة التي نسألها، ونفشل في طرحها، حول التاريخ لا تغيّر آراءنا فقط، بل تتساءل عن مكاننا، وعما يخفيه المستقبل لنا كذلك».

الكتاب صادر عن دار «برينستون» الجامعية في فبراير/‏ شباط 2019 باللغة الإنجليزية ضمن 216 صفحة. ويأتي في ثلاثة أقسام ما عدا المقدمة والخاتمة.

نبذة عن الكاتب

* أستاذ العلوم الدولية في جامعة باتريك شيهي في قسم السياسة والدراسات الدولية بجامعة كامبريدج وزميل بكلية كينغز من كتبه السابقة «دليل الطاغية لإدارة الثروات والنظام الدولي في التنوع». يعيش في لندن.

زر الذهاب إلى الأعلى