قضايا ودراسات

احتجاجات البصرة نقطة تحول

محمود الريماوي

فاجأ الزخم الذي صاحب الموجة الشعبية الاحتجاجية في البصرة، سائر الفرقاء في العراق. ورغم أن هذه الموجة انطلقت بغير توجه سياسي أو حزبي، إلا أنها حافظت على توسعها، وقد جاء سقوط عدد من القتلى والجرحى ليزيد من أوار الاحتجاجات، التي حملت مطالب خدمية تتعلق أساساً بمياه الشرب وبالفقر والبطالة، إلا أنها انقلبت باتجاه سياسي في اليوم الثالث (الجمعة الماضية 7 سبتمبر/أيلول) إذ استهدفت مقار أحزاب وميليشيات ومحطة التلفزيون الرسمي، إضافة إلى القنصلية الإيرانية. وهو ما أثار ردود فعل واسعة ومتوترة تراوحت بين دعوة مقتدى الصدر لتحريك قوات التيار لحماية المتظاهرين، وبين دعوة قادة في الحشد الشعبي لتحريك قواتهم لضبط الوضع، فيما احتفظت حكومة تصريف الأعمال بموقف وسطي يدعو لاجتناب توجيه الرصاص الحي إلى المتظاهرين، وذلك قبل سحب القوات الأمنية تفادياً لاحتكاكات خطيرة.
عقد مجلس النواب أول جلسة عمل له ، بناء على دعوة سياسية ملحة من مقتدى الصدر لبحث أوضاع المدينة، بعدما هدد بتحرك «لا يخطر في الأذهان» إذا لم تتم المبادرة الحكومية العاجلة إلى تلبية الاحتياجات الأساسية لأهالي البصرة. وبموقفه هذا وبالنبرة التي استخدمها فقد نأى الصدر بنفسه عن التحالف الذي ما انفك يحكم العراق منذ نحو عشر سنوات على الأقل. وفي واقع الأمر فإن استهداف مقار أحزاب وميليشيات، رغم طابع العنف غير المحمود وغير المحبذ الذي اتسم به، إنما يعود لقناعة شعبية بأن هذه الأحزاب والميليشيات هي من يحكم العراق عملياً، حتى لو كان بعض مكوناتها خارج الحكم حالياً. وهو أمر يدركه المواطن العراقي البسيط بتجربته الحسية، وبغير أن يكون منحازاً لفريق سياسي ما، وكل ما في الأمر أنه يتوجه باللائمة الشديدة إلى القوى النافذة التي فاقمت من مشاكله.
وقد أصدرت الخارجية العراقية بالمناسبة بياناً أعربت فيه عن أسفها، لاستهداف القنصلية الإيرانية بما يتعارض مع الأعراف الدولية التي تملي حماية البعثات الدبلوماسية. أما الرسالة السياسية للمحتجين وراء هذا الاستهداف غير المقبول، فهي إبداء السخط على حجم التدخلات العلنية من طرف دولة جارة في الشؤون الداخلية والسيادية للعراق، مثل التدخلات التي جرت في الأسابيع القليلة الماضية لتشكيل كتلة نيابية كبيرة تتولى السلطة التنفيذية خلفاً لحكومة حيدر العبادي التي تقوم حالياً بمهمة تصريف الأعمال. مع ملاحظة أن نجاح مقتدى الصدر في تشكيل كتلة نيابية كبيرة، لم يحل دون اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة وهي الأشد عنفاً التي تشهدها في هذه المحافظة الجنوبية التي تتوفر على مخزون نفطي كبير.
ومع تسارع التطورات بين يوم وآخر، بل بين ساعة وأخرى، فإن هذه الموجة الشعبية قد أسهمت في بلورة فرز أوضح داخل المجتمع السياسي العراقي، بين من ينشدون إعادة بناء الدولة الوطنية المستقلة التي تلتزم بمبدأ المواطنة، وبالقوات المسلحة الشرعية، وبين من يسعون لإدامة الأمر الواقع بتضخيم الميليشيات والاستتباع لدولة خارج الحدود، مع ما يرافق ذلك من تعدد مراكز القرار، وصعوبة إنفاذ القوانين، وانتشار واقع الأمن الذاتي والفئوي.
وبهذا فإن تشكيل حكومة جديدة، يبدو وكأنه يطهى على نيران حامية، إذا قيض لهذه الحكومة أن ترى النور خلال وقت قريب. إذ خلافاً لهذه التوقعات التي تتماشى مع مقتضيات الدستور، فإن هناك مخاوف من تجدد نزاع أهلي واسع، حول مستقبل البلد وهويته، ولكن مع استخدام مسميات جديدة للنزاع هي أقرب للاتهامات مثل اتهام الصدر بالتحالف مع البعثيين أو الحرب على بقايا «الدواعش»، أو محاربة النفوذ السعودي، وسوى ذلك من اتهامات. وما يثير مثل هذه المخاوف هو بعض الدعوات التي أطلقت لإقالة العبادي، ووصلت إلى توقيع عشرات النواب لهذه المطالبة التي لو تحققت فسوف تهدد بوقوع فراغ سياسي خطير. ولعل المطالبات بإقالة الرجل ترمي إلى تحقيق هذا الغرض فحسب، بل تهدف أساساً لتبديد فرصة العبادي في تشكيل حكومة جديدة منبثقة عن مجلس النواب المنتخب.
ويفترض الآن أن موجة الاحتجاجات قد هدأت، وأن الحكومة القائمة قد شمرت عن ساعد الجد لتلبية احتياجات البصرة بعد طول تلكؤ، على أن النزاع السياسي الداخلي لن يتوقف بعد أن كشفت احتجاجات البصرة عن وجهته ومضمونه، بصورة علنية وبمشاركة شعبية واسعة غير حزبية وعابرة للطائفية والطوائف.

mdrimawi@yahoo.com

زر الذهاب إلى الأعلى