الإصلاح السياسي و«التوتاليتارية المجتمعية»
الحسين الزاوي
تذهب الأغلبية الساحقة من التحليلات السائدة في السياقين السياسي والإعلامي في الوطن العربي، إلى تحميل السلطة السياسية مسؤولية انتشار النزعة التوتاليتارية أو الشمولية، التي تقف في وجه كل المحاولات الهادفة إلى القيام بإصلاح سياسي عميق، يسمح بتحقيق مشاركة واسعة في تسيير الشأن العام، ويضمن الحقوق الأساسية للمواطن، ويجعل التداول الجزئي أو الكلي على السلطة أمراً متاحاً أمام قوى المعارضة. وتنطلق هذه التحليلات من التصورات نفسها التي جرى تبنّيها على نطاق واسع بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، في مرحلة احتدام الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، والتي كانت تحرص على عدم التمييز بين النظام النازي من جهة، وبين النظام البلشفي من جهة أخرى، لأن كلا النظامين يملكان بالنسبة للقوى الغربية التقليدية، البنية السياسية نفسها، القائمة على نظام الحزب الواحد، وعلى استبعاد الخصوم السياسيين.
بيد أن هذه التحليلات وعلى الرغم من أهميتها ووجاهة الكثير من الآراء التي تعبّر عنها، إلا أنها ترمي في مزبلة التاريخ كل الجماهير الغفيرة التي كانت تسبِّح بحمد زعمائها، وهي التي أوصلتهم بطريقة ديمقراطية لا غبار عليها إلى سدة الحكم، كما حدث مع هتلر زعيم الحزب الوطني الاشتراكي في ألمانيا.
ومن الخطأ أن نقتصر في فهم معاني التوتاليتارية على كتابات ومواقف «حنة أرنت»، التي عانت القمع النازي ضد اليهود وحاولت البحث عما سمّته «جذور التوتاليتارية»، أو على ما كتبه كارل بوبر في مؤلفه الموسوم: «المجتمع المفتوح وأعداؤه»؛ لأن هذه الإسهامات الفكرية تأثرت في بعض جوانب قراءتها للظاهرة، بأجواء الحرب الباردة، وقامت في أحايين كثيرة بتقديم استنتاجات متسرعة بشأن أسباب انتشار النزعة الشمولية في ممارسة الحكم، على الرغم من التوصيفات البارعة التي قدمتها للظاهرة. ويعود ذلك في اعتقادنا إلى عدم الأخذ في الحسبان، كل الخبايا والتفاصيل المتصلة بمثل هذه المواضيع الشائكة، التي يشير إليها «إدجار موران» في أطروحته المتعلقة بالفكر المركب.
نعتقد في هذه العجالة أن مقاربتنا لمفهوم التوتاليتارية ستكون ربما أكثر تداولاً في السياق السياسي العربي الراهن، لو أنها اختارت الاصطفاف مع التفسيرات الرائجة المتعلقة بما «يطلبه المستمعون والمشاهدون أو القراء»، لاسيما في هذه المرحلة التي كثر فيها ضجيج النقمة على الأوضاع، والتبس فيها مفهوم «الشعب»، وصار كل طرف ينسب نفسه لهذا الشعب ويتحدث باسمه، ويقذف بالآخرين في سلة المهملات؛ ذلك أن معظم هذه التفسيرات كانت وما زالت تنطلق من رؤية نضالية وأيديولوجية للمشهد السياسي العربي الراهن، والمتصل في زعمنا بما يمكن تسميته بالتوتاليتارية أو «الشمولية المجتمعية»، التي تسهر على صناعة وإعادة إنتاج مختلف أنواع الشموليات في تجلياتها السياسية، والمعيارية والدينية والعرقية واللسانية، فضلاً عن التشنجات التي تُفرزها الانتماءات الوطنية المغلقة، التي تصل أحياناً إلى مستوى النزعة الشوفينية والتعصب الأعمى.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر في هذا السياق، أن البناء الديمقراطي للدول لا يرتبط فقط بالفضاء السياسي، ولكنه وثيق الصلة بالفضاءات الاجتماعية المتعددة؛ الأمر الذي يفرض بحسب كلود لوفور، إدراك أهمية الفصل، داخل العملية الديمقراطية، بين السياسي وبين الاجتماعي، حيث يقول في كتابه: الابتكار الديمقراطي: «إن السلطة الديمقراطية، ومن خلال الفارق الذي تحافظ عليه بين الرمزي وبين الواقعي، لا تستوفي وظيفتها إلا عندما تسمح بتصور إمكانية القسمة ما بين الفضاء السياسي والفضاء الاجتماعي، وإمكانية القسمة داخل الفضاء السياسي نفسه، وفي النهاية، وبتأثير من القسمة السابقة، إمكانية القيام بتقسيم اجتماعي داخلي»؛ إذ إن المجتمعات الشمولية التي ترفض التعددية، لا يمكنها أن تنتج أنظمة ديمقراطية، كما أن المجتمع الذي لا يؤمن بحقوق الإنسان وبالحق في الاختلاف في الرأي والفكر والمعتقد، لا يمكنه أن يقبل بذلك الاختلاف على المستوى السياسي.
ويذهب لوفور إلى التأكيد في السياق نفسه، على أن «معايير التمييز ما بين العدل والظلم، والخير والشر، والمباح والمحرّم، والصدق والكذب، تكون منفصلة في اللحظة ذاتها، عن بعضها البعض، وكل واحدة منها قابلة للصياغة انطلاقاً من أماكن مختلفة، مرتبطة بأنماط تنشئة اجتماعية وأنماط من النشاط الخاصين».
وبالتالي فإن الفرد الذي لا يؤمن بقيم المواطنة، ويُخرج معادلة الحلال والحرام عن سياقها الديني، ويفرضها بشكل تعسفي على المنظومتين المجتمعية والسياسية، ولا يرى حرجاً في مخالفة القانون عندما يعتقد أن ذلك مباح من الناحية الدينية، لا يمكنه أن يُسهم في بناء مجتمع منفتح على الآخر، وبخاصة عندما يسعى إلى تحويل الأغلبية العددية إلى أداة لتكريس «التوتاليتارية المجتمعية».
يتضح لنا اعتماداً على ما تقدم، أن هناك الكثير من الانفعالات والخيالات والإيهامات وقليل جداً من الحصافة والعقلانية، في كل ما يجري تداوله من قراءات وتحليلات بشأن مفهوم التوتاليتارية والشمولية في مجتمعاتنا العربية، لأننا بكل بساطة في مواجهة ظاهرة مصطلحية تتمسك بشمولية الدال في مقابل نسبية وفقر للمرجعيات المتعلقة بالمدلول، وتؤدي هذه العلاقة غير السوية ما بين اللفظ والمعنى، إلى تأجيج مزيد من الصراعات، بعيداً عن ساحات المعركة الأصلية المتعلقة بمواجهة التعصب والجمود والانغلاق، والتصدي للعنصريات العرقية واللسانية والطائفية.
يقول إريك فروم: «إذا حاول المرء عزل جزء من النظام، فلن يقود هذا إلى تغيير النظام ككل. على العكس، سيستمر النظام في طريقة عمله الخاصة، ممتصاً تغيير أي جزء بطريقة تجعل آثار هذا التغيير عديمة القيمة». وذلك من منطلق أن التغيير الإيجابي والفعال، يجب أن يتم على مستوى الوعي والتصورات الذهنية داخل الأنساق المجتمعية، قبل أن يصل إلى المنظومات المتفرعة عنها، فقد أثبتت التجربة، كما يقول آلان باديو، أنه ليس صحيحاً أن «السلب يحمل بداخله البناء»؛ إذ لا بد من استحضار عنصر إيجابي يسمح للسلب بأن يلعب دوره في تحديد آفاقه.
hzaoui63@yahoo.fr