الإمبراطورية الأورويلية
بعد رحلة ثلاثة عقود في عالم البحث والدراسة والتحليل، يقدّم الكاتب الفرنسي المقيم في الولايات المتحدة جيلبرت ميرسييه، عمله في كتاب بعنوان «الإمبراطورية الأورويلية»، الذي يسلط فيه الضوء على ممارسات وسياسات المؤسسات والشركات في الدول الرأسمالية، ويكشف كيفية ممارسة التضليل بشكل عام، وعلى مستوى كبير في كافة قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية، ولصالح القلة من الرأسماليين الكبار. في هذا العمل الرصين نقرأ سرداً تاريخياً للممارسات الرأسمالية البشعة، ولا يتوقف المؤلف عند دولة معينة تعرضت للغزو أو أصبحت سوق عمل للشركات والمنظمات، بل يجد أن الضحايا يمتدون من ديترويت أكبر مدن ولاية ميشيغان الأمريكية إلى أفغانستان المنكوبة، كذلك عدد من دول الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
يأتي الكتاب في سبعة أقسام بعد التمهيد، يتحدث فيها بشكل مركز على النقاط المظلمة من حولنا، وما يصعب فهمه أحياناً من مفارقات كبرى، وهو صادر عن دار «نيوز جانكي بوست بريس» في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر 2015.
يمكن فهم الكثير من محتوى هذا العمل من خلال ما يتحدث به مؤلفه الفرنسي ميرسييه، عند الانتقال من بلاده إلى الولايات المتحدة، حيث يحاول الكشف عن جرائم الرأسمالية في العالم، ويبدأ ذلك بقوله: «كان التوقيت أوائل 1981. كنت لا أزال أعيش في باريس. لقد شهدت افتتاح أول مطعم مكدونالدز في أسفل قصر الإليزيه، وهذا الأمر جعلني أدرك أن الأمركة المنفتحة قد بدأت في فرنسا. بدأ الغزو حينها، على الرغم من أن فرنسا كانت لا تزال مستقلة بشكل سياسي عن الولايات المتحدة. ولم تكن، في ذلك الوقت، تابعة للإمبراطورية الأمريكية، حيث كان لها جيشها الخاص بها، والذي لم يكن جزءاً من اتفاقية حلف شمال الأطلسي «الناتو». انتقل مرض الاستهلاك إليها عندما فتحت مطاعم الوجبات السريعة أبوابها في باريس. ولم يفهم الشعب الفرنسي، على العموم، أن الثقافة الفرعية لرأسمالية الشركات العالمية قد تسللت إليهم، وفي نهاية المطاف، ستقوم قبل كل شيء بجعل الثقافة الفرنسية في حالة من التآكل، ثم ستحاول أن تقضي عليها. كانت تلك اللحظة بالضبط التي بدأت فيها بالتفكير في الانتقال إلى الولايات المتحدة في مسعى إلى دراسة ما يحدث من المصدر الذي كان يضعف ثقافتي. أخيراً انتقلت في عام 1983 إلى مقر الإمبراطورية خلال الفترة الرئاسية الأولى لرونالد ريغان».
ويشير إلى الفارق بين رجال السياسة في بلاده والولايات المتحدة، ملخصاً الفرق بين الاثنين: «جئت من بلاد، يكون فيها القادة على درجة عالية من الثقافة والجدية، إلا أنني وصلت إلى أرض سوريالية؛ حيث الرجل الذي من المفترض أنه على سدة الحكم أشبه ما يكون بممثل من الدرجة الثانية يقرأ نص شخص آخر. كان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران مسؤولاً بشكل فعلي عن فرنسا، في حين أن ريغان كان أشبه بورقة تدار من قبل مسؤولين آخرين. ونصّب نائب الرئيس جورج بوش الأب نفسه كرئيس مجلس إدارة شركة الإمبراطورية الأمريكية. لقد كان بوش وأصدقاؤه في السياسة والاقتصاد، قد بدؤوا في إدارة شؤون الولايات المتحدة، كما لو أن البلاد كانت عبارة عن شركة. كان الأمر حينها في منتصف سنوات الثمانينات، حيث إن مديري الولايات المتحدة من أصحاب الشركات المسيسين بدؤوا بالتقليل المنظم من شأن كل البرامج الاجتماعية الممولة بشكل علني. وكان الأمر في منتصف الثمانينات، حيث انفجر السكان المشردون في الولايات المتحدة؛ نتيجة الانخفاض القاسي في الإنفاق العام على الصحة الذهنية».
ولادة الإمبراطورية
يرى ميرسييه أن الإمبراطورية الأورويلية – وهنا الصفة منسوبة إلى الكاتب الإنجليزي جورج أورويل صاحب «مزرعة الحيوان» و«1984» – ليس لها يوم ميلاد محدد، لكنها من دون شك ولدت من بضع خلايا مسرطنة في سنوات الثمانينات، قائلاً: «أصبحت السياسة مشهداً، والمشهد أصبح مهزلة بشعة. خلال عقد من الزمن، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، كنا نعيش في أراضٍ خيالية بين أورويل وكافكا. وقد كسب الخداع والغموض زخماً لا يمكن إيقافه. بغض النظر عن أي شيء، ما كان مهماً حقاً في قلب الإمبراطورية حينها، لا يزال يشغل الأهمية ذاتها حتى الآن وهو: أقصى حد من الربح بأي كلفة اجتماعية».
ويشير إلى أن «حكام الشركات أرادوا تفكيك النظام الاقتصادي «الصفقة الجديدة» للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وهذا بالضبط ما قاموا به. فالمكلفون السياسيون من قبل الشركات تعلموا دروسهم من سنوات الستينات والسبعينات، ولن يسمح بحدوث فضيحة أخرى مثل ووترغيت أو الفيتنام. وكان الصحفيون المستقلون ينزعجون بشكل مستمر من الشبكات التلفزيونية الأمريكية التي كانت تشتريها شركات مختلفة. بالتأكيد ستحدث فضائح أخرى مثل ووترغيت، لكن الرأي العام الأمريكي غارق في الظلام».
وعن إحكام هؤلاء قبضتهم يقول: «إلى جانب إخصاء الصحافة، تأكد هؤلاء الذين في السلطة أيضاً، من أنه لن يتم تجنيد أمريكيين منتظمين في الجيش. وأصبح الجيش الأمريكي أداة مكونة من قوة من المرتزقة المنصاعين أثناء الحروب بغاية تحقيق الربح. إن الصراعات المسلحة، والتي في الأغلب ما تكون سرية، تديرها جهات مثل «سي آي إيه»، وهذا الأمر أصبح أشبه ما يكون بالقاعدة العامة، وبات بعضهم، إما عبر تجارة المخدرات وإما عبر تهريب البشر، يمول نفسه بشكل ذاتي».
النهوض على المفارقات
يتنـــــاول الكاتــــــب في عمله، العديد من الجوانب التي تسلط الضوء على ممارســـات الشركــات في التضليــل وبيــع الأوهام، وخلق حالة من التشويش التي تخدمهــم، وإبعــاد الأنظار والشبهات عن المتحكمين بها، قائلاً في ذلك: «كانت ثورة الإنترنت في سنوات التسعينات تهديداً كبيراً على ضباط الهيكل الأورويلي؛ إذ إن الإنترنت جعل المعرفة البشرية بالكامل في المتناول مجاناً، وتقريباً لأي شخص، وفي أي وقت. وكان الحصول على المعلومات بالشكل السريع طريقاً للمعارضين ليستحوذوا على القلاع المحصنة، إذ إن أداة خطيرة مثل الإنترنت ينبغي أن تتحول عن مهمتها الأصلية. حينها قام داعمو الإمبراطورية الأورويلية بتحويل المعلومات إلى متاهات لا تحصى من التضليل. فقد جلب الإنترنت إلى الحوار العام إحساساً من الوضوح، وبدلاً من ذلك، في فروعها على مواقع التواصل الاجتماعي، خلقت التشويش، وأنتجت، في العديد من الحالات، اضطراباً ونقصاً في الانتباه بشكل جمعي»، مؤكداً هذه الممارسة بقوله: «ما يهم هو توليد المزيد من التشويش في عقول الناس على أكبر قدر ممكن؛ لإبقاء الجميع مغسولي الأدمغة، وغير متوازنين، ومن أجل أن يتحكموا بالرواية الرئيسية.
المفكّرون الذي ينتقدونهم، وليس الذين يتم تسميتهم بالإرهابيّين، هم الأعداء الحقيقيون للإمبراطورية، ومن الصعب للغاية ممارسة التفكير النقدي في تعليق مرافق لصورة ما أو عبر 140 حرفاً. ما تملكه الإمبراطورية الأورويلية على قائمة التضليل لديها، هو إما غسل أدمغة العامة مع مشاهد وجنون استهلاكي مؤقت، وإما اللجوء إلى بروباغندا صارخة تستهدف بها جماعات التركيز المختلفة».
ويضيف: «في الأزمنة الأورويلية، أصبح الكذب على الناس وجعلهم مشوشين شكلاً من الفن؛ إذ إن الإمبراطورية الأورويلية تتغذى على المفارقات، فكلما كانت الكذبة غريبة وكبيرة، كان أفضل. فالفحم النظيف، هو شكل من التناقض اللفظي، وقد أصبح حملة إعلانية. كما يمكن أن تصبح كل ما تستطيعه في الجيش الأمريكي، لكن لا يخبرونك أن العودة من دون ساق أو في كيس الدفن هو سياق ممكن. في الأزمنة الأورويلية، كل شيء على عكس ما يبدو».
العودة إلى عصور الظلام
يجد الكاتب أن بعض الرجال المؤثرين يحاولون إجبارنا على الدخول في بشاعة آلاتهم الزمنية المتخيّلة، بهدف محاولة عكس الأمور إلى اتجاه آخر، وفي حالة الإقطاعية، فقد مرّ عليها تقريباً ما يقارب ألفية من التقدم الاجتماعي. وجلب منتصف القرن العشرين سنوات من الاضطراب الجماعي للرايخ الثالث لأدولف هتلر، والأكثر حداثة ما يمكن رؤيته البيان الإمبريالي الأمريكي، أو ما يسمى مشروع القرن الأمريكي الجديد، والذي أعدّ في عام 1997، لكنه لا يزال نافذ المفعول اليوم، مع الهدف المعلن ذاتياً لترويج القيادة العالمية الأمريكية بحزم، وبالقوة العسكرية، إذا لزم الأمر.
ويسوق أمثلة من القرن الثامن عشر قائلاً: «مونتسيكو وزملاؤه في القرن الثامن عشر مثل فولتير، ديديروت وروسيو من عصر التنوير، نبذوا الإقطاعية؛ لكونها نظاماً يهيمن عليه بشكل حصري الأرستقراطيون الذين بحوزتهم كل القوة الاجتماعية والسياسية والمالية. وخلال ذلك الوقت، الذي احتضن الثورة الفرنسية، وبنى أسسها الإيديولوجية، أصبحت الإقطاعية مرادفة للمَلكية الفرنسية، وبالنسبة لكتّاب التنوير، رمزت الإقطاعية إلى كل شيء كان خاطئاً مع نظام مبني على امتيازات بحسب الولادة، واللامساواة، والاستغلال الوحشي».
ويشير إلى أنه من المفارقـــــة أن الإقطاعيـــــــة تحقّــــق عــــودة لهــــا فـي التطـورات الأخيرة، وتحت نبـــض رأسماليـــة عالميــــة مفترسة. وكان كارل ماركس في منتصف القرن التاسع عشر يعتبر الإقطاعية تمهيداً للرأسمالية. وبشكل نموذجي، أي نظام إقطاعي يمكن أن نعرّفه كمجتمع مع طبقة اجتماعية موروثة. في العصور الوسطى، كانت الثروة تأتي بشكل حصري من الزراعة: قامت الأرستقراطية بشكل طبيعي بامتلاك الأرض، في حين أن عبيد الأرض قدّموا العمالة. كان النظام الإقطاعي لعصور الظلام يجسد الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي للفلاحين من قبل أسياد الأرض. وقاد هذا إلى اقتصاد محدد دائماً بالفقر، وبعض الأحيان بالمجاعة، والاستغلال المتطرف، والفجوات العريضة بين الأغنياء والفقراء.
ويشير المؤلف إلى أنه يبدو أن شبكة قوية من الأوليغارشيين في جميع أنحاء العالم تسعى إلى إعادة الساعة الاجتماعية إلى ما قبل عصر التنوير، أي عصور الظلام القائم على طبقتي الأسياد والعبيد، بمعنى عهد جديد من العبودية العالمية لمصلحة قادة العالم في «وول ستريت». ومقارنة بعبودية عصور الظلام، فإن عبودية اليوم أكثر بشاعة، حيث يوجدها صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، والعديد من البنوك الخاصة. إن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يقومان باستعباد شعوب العديد من البلدان، في حين أن البنوك تفعل ذلك مع الأفراد».
عالمنا المنكسر
يعنون الكاتب فصلاً له في القسم الأخير من عمله بعنوان «هل يمكن أن نخترع عالماً يقوم على الأخلاق والقيم والتعاطف؟»، ويشير فيه إلى أنه في العقود المقبلة، سوف تتجه أزمة الطعام العالمية إلى الأسوأ. ففي كل أنحاء العالم، هناك بعض المشكلات الكبرى على جانبي العرض والطلب. فيما يتعلق بالطلب. العوامل الرئيسية المسؤولة عن رفع أسعار الغذاء هي انفجار السكان، واستخدام المحاصيل لأجل الوقود والتوقعات الجارية فيما يتعلق بالبضائع والأرض من قبل الأسواق المالية العالمية. أما فيما يتعلق بجانب العرض، فقدان الأراضي الزراعية لنشاطات غير زراعية، وتحويل المياه إلى المدن، وتغير المناخ مع موجات الحر والفيضانات، حيث تأخذ أثراً دراماتيكياً بخصوص الكثير من القدرة العالمية لإنتاج المزيد من الطعام. ما يجب على الرأسمالية العالمية أن تفعله، على مستوى الحكومات والشركات الكبرى، بالنسبة لبقائها، سيكون بهدف إعادة تعريف الأمن، وتغيير الإنفاق من العسكري وأغراض المراقبة إلى الاستثمارات في الحلول لمعالجة ظهور الاكتظاظ السكاني، وتغير المناخ، وندرة المياه. العالم على طريق غير مستدام، ومن شأنه بالتأكيد أن يقود إلى مواجهة أساسية بين الناس والنخب الحاكمة الوطنية وامتداداتها في الخارج.
ويضيف: «إن النظام العالمي الحالي لإمبريالية الشركات، نسخة متطرفة من الرأسمالية. فليس لها حدود وطنية، ويمكن أن تتورط في ممارسات بشعة في جميع أنحاء العالم مع تجاهل تام للسكان المحليين، وليس من عواقب قانونية تردعها. أصبحت العولمة حقيقة حياتنا اليومية. والقرارات التي تتخذ في الولايات المتحدة أو الصين أو أوروبا من قبل حكوماتها أو شركاتها، سوف تؤثر فيما نأكله، والطاقة التي نستهلكها، وفيما نشتريه، وتترك تأثيراً في كيفية اطلاعنا على الأحداث العالمية. وهذا بالطبع، باعتبار أن قسماً كبيراً من منافذ الأخبار تتحكم بها شركات متنوعة كبرى، سواء بأجندة سياسية أم اقتصادية».
إن العولمة جعلت الرأسمالية آلة مدمرة تجني الثروة من دون الشعور بالقلق على العمال الذين يعملون كالنحل، حيث ينتجون الثروة، ويخلقون شكلاً من الضرر من شأنه أن يلوّث بالبيئة ويستنزف الموارد.
بالنسبة لرجل أعمال أمريكي لا يهم إذا كانت خبرات بلده تعاني البطالة بشكل مضاعف، إذا كان باستطاعته أن يجد طريقة أرخص لصناعة منتج في الصين أو الهند. فالعمال في الصين والهند تدفع لهم رواتب هزيلة، والتي بمشقة تسمح لهم بالعيش، لكن تسمح لرجال الأعمال الصينيين والهنود والأمريكيين بأن يصبحوا أثرياء جداً. وبعض الشركات متعددة الجنسيات تعمل مثل الدول، حتى أن بإمكانها أن تستأجر جيوشاً خاصة بها. فشركات النفط مثل «شل» تقوم بعمل ذلك في نيجيريا، وغيرها من الشركات العاملة في أمريكا اللاتينية، حيث وجهت إليها اتهامات باستئجار مليشيات تمارس القتل والتنكيل بمعارضي سياساتها.
نبذة عن المؤلف
جيلبرت مرسييه هو صحفي فرنسي، ومصور، ومحلل سياسي، ومخرج، عمل سابقاً في هوليوود ككاتب سيناريو، ومنتج ومخرج فني. وهو رئيس تحرير موقع «نيوز جانكي بوست» وأحد مؤسسيه.
حصل على إشادات دولية في تغطيته الصحافية عن «نيو أورليانز» في أعقاب إعصار كاترينا. وعلى مدار سنوات عديدة، كان يشارك كمحلل سياسي على برامج تلفزيونية وإذاعية دولية مثل «روسيا اليوم»، «بي بي سي»، شبكة «سبوتنيك»، «قناة الحرة» التلفزيونية وغيرها. ويعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1983 وله أعمال أخرى فردية وبالاشتراك مع مؤلفين آخرين.