البرازيل: النيوليبرالية في وجه الديمقراطية
تأليف: ألفريدو ساد فيلهو وليسيو موريس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
تحتل دولة البرازيل الترتيب السادس كأكبر اقتصاد في العالم، وهي تلعب دوراً دولياً مهماً منذ عقود. كما أنها أحد البلدان الكبرى القليلة التي ارتفع فيها الإنفاق الاجتماعي، وتحسن توزيع الدخل في الثلاثين عاماً الماضية، لكن احتجاجات كأس العالم 2014، أثبتت أن البلاد لا تزال غير متكافئة إلى حد كبير، مع عدم تلبية احتياجات الرعاية الاجتماعية الهائلة، وعدم الاستقرار في البنية التحتية.
يستعرض هذا العمل المفارقة المعقدة التي هي البرازيل الحديثة. يركز فيه المؤلفان على مجريات الأحداث منذ عام 1980 حتى الوقت الحاضر، ويحللان توترات الانتقال السياسي من الحكم العسكري إلى الديمقراطية الأولى، ثم النيوليبرالية.
يتناول هذا الكتاب الصادر في 2018 عن دار «بلوتوبرس» باللغة الإنجليزية، مسار الاقتصاد والمجتمع والنظام السياسي في البرازيل في العقود الأخيرة. إذ تتم معاينته من وجهة نظر القيود الحاصلة والتناقضات بين التحول السياسي من الديكتاتورية العسكرية إلى الديمقراطية، والتحول الاقتصادي من التصنيع لإحلال الواردات إلى النيوليبرالية.
يقول المؤلفان في المقدمة: «تعد البرازيل خامس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، واقتصادها هو الأكبر في أمريكا اللاتينية، وأحد أكبر عشر اقتصادات في العالم. كانت البرازيل واحدة من أولى إدارات «الموجة الوردية» في أمريكا اللاتينية. وفي عام 1994، كانت مسؤولة عن إغلاق الاقتراح الذى رعته الولايات المتحدة حول إقامة منطقة للتجارة الحرة في الأمريكتين.
ويضيفان: «بين أواخر أربعينات وثمانينات القرن الماضي، اقتربت نسب إجمالي الناتج المحلي من 7 في المئة سنوياً (4 في المئة لكل فرد)، والتي كانت عالقة حتى خلال «العصر الذهبي» للرأسمالية العالمية ما بعد الحرب. تغيرت البلاد. والإنتاج الضعيف الذي، حتى أوائل القرن العشرين، تخصص في إنتاج القهوة لأجل التصدير، أصبح كبيراً، وصناعياً وقوة دينامية سريعة النمو، وبدأ يصدّر بضائع متينة إلى الصين، وخدمات البناء إلى الشرق الأوسط، وأخيراً الطائرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية».
كما يوضح الكاتبان في هذا السياق أن «النمو الاقتصادي السريع ليس إشكالياً، بل له ملمحان تعويضيان محتملان: على الصعيد المحلي، يفتح إمكانية إرضاء الاحتياجات الأساسية للجميع؛ أما على الصعيد الخارجي، يمكن أن يدعم إعادة توازن الاقتصاد السياسي العالمي».
ويضيفان: «بدّدت البرازيل الاحتمالات التحوّلية. بغض النظر عن التغيرات في الاقتصاد والنمو الاستثنائي للقدرة الإنتاجية عبر تصنيع بدائل للواردات. فالبرازيل كانت، ولا تزال، واحدة من أكثر الدول التي تشهد حالة من اللامساواة، مع فقر يعطّل حياة عشرات الملايين من الناس، فشلت غالباً في المساهمة بشكل مهم في الدبلوماسية العالمية».
يأتي الكتاب في 216 صفحة من القطع المتوسط، وينقسم إلى تسعة فصول مع خاتمة وهي: طريق محفوف بالمشكلات إلى التطوير، بناء ديمقراطية هشة، استقرار التضخم والانتقال إلى النيوليبرالية، تأثيرات النيوليبرالية، النيوليبرالية تحت حكم حزب العمال، النيوليبرالية التطورية وحزب العمال، من المجد إلى الكارثة، الطبقة والسياسة الطبقية في النيوليبرالية البرازيلية، من التقاء حالات عدم الرضى إلى إحياء النيوليبرالية، والخاتمة: أزمة النيوليبرالية، أزمة الديمقراطية.
لمحة تاريخية
يتطرق الكاتبان في الفصل الأول إلى لمحة تاريخية عامة يشيران فيها إلى أن الدولة البرازيلية كانت محكومة بنظام جمهوري أوليغارشي حتى العام 1930، ودكتاتورية شعبوية يمينية بين 1930 و1945، ودكتاتورية عسكرية 1964 و1985. في تلك الفترة الفاصلة، في الخمسينات، حكمت ديمقراطية مضطربة تشكلت نتيجة المصالح والاتجاهات المتعددة من الشعبوية، وتهديد توازنها، ما أدى إلى ظهور قوى من اليسار السياسي«.
ويوضحان أنه تأسست ديمقراطية أكثر نجاحاً في سنوات الثمانينات، لكن الانقلاب البرلماني -القضائي لعام 2016 أظهر أن الحرية السياسية تبقى هشة في البرازيل، وأن السعي إلى تحقيق المساواة فيها لا يزال غير مرحب به على المستوى العالمي. على الرغم من أنه يظهر بمظهر مجتمع متماسك وودود، حيث الأغنياء والفقراء والنساء والرجال، السود والبيض يستمتعون برقصة السامبا، وتناول المشروبات المفضلة لديهم، والاستمتاع بلعب كرة القدم معاً، إلا أن المجتمع البرازيلي قد ابتلي ب 500 سنة من العنصرية، والإقصاء وعدم المساواة، والعنف، والاستبداد. تأثيراتها استمرت بغض النظر عن التغيرات في النظام السياسي.
يعاين الفصل الثالث النيوليبرالية كنظام تراكم (وهو، المرحلة المعاصرة من الرأسمالية العالمية) كمقدمة لمراجعة التحوّل إلى النيوليبرالية في البرازيل. ويشيران إلى أن الأشكال النيوليبرالية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات كانت مبررة بسبب الإنهاك المفترض لسياسة التصنيع لاستبدال الواردات، والحاجة إلى تحسين الكفاءة الاقتصادية وضرورة التحكم بالتضخّم. وقد وفّرت هذه التحديات الغطاء الإيديولوجي للتحول الاقتصادي من سياسة التصنيع لإحلال الواردات إلى النيوليبرالية.
ومما يقوله الكاتبان: «النمو تعثر في سنوات الثمانينات، والاقتصاد غلب عليه ركود مطوّل دام إلى سنوات 2000. في تلك الأثناء، تسارع التضخم من حوالي 20 في المئة سنوياً في 1972، وإلى ذروة سنوية فوق 5000 في المئة، في منتصف 1994. تلك الكارثة أزيلت بما يسمى «الخطة الحقيقية»، ولكنها استخدمت لدعم انتقال البرازيل إلى النيوليبرالية. وفي كل الأحوال، لم تجلب النيوليبرالية النمو، والتحسينات المستدامة إلى معايير المعيشة أو إلى مجتمع يشهد انقساماً. على النقيض، نسب إجمالي النمو وخلق فرص العمل انخفضت حتى أبعد من ذلك، ونمط العمل انهار حتى إذ ما تمت المقارنة مع ما يسمى «العقد الضائع» في الثمانينات».
توترات سياسية
يتناول الفصل الخامس النجاحات والقيود عند الإدارة الأولى للرئيس لولا دي سيلفا. ويذكر الكاتبان أن انتخاب لولا، في 2002، كان نتيجة عمليتين مدعومتين بشكل ثنائي. من ناحية، كانت هناك توترات بين المنطق الشامل للديمقراطية والنتائج الحصرية للنيوليبرالية (من بينها الفقر، اللامساواة، والتوظيف المضطرب). وعلى الجانب الآخر، كان هناك التطور الباطني لحزب العمال، الذي موضع نفسه بشكل أساسي كحزب نزيه ملتزم بالعدالة والتنمية، على حساب التزامه الأول ببعض أشكال الاشتراكية. على هذه القاعدة، بنى حزب العمال «تحالف الخاسرين»، من بينها مجموعات مع تجربة الخسارات في ظل النيوليبرالية بشكل عام.
كما يضيفان أن هذا التحالف دعم محاولة حزب العمال البرازيلي على الحكم ضمن القواعد المتأسسة، وذلك هو، استيعاب النيوليبرالية والسياسة ثلاثية الأبعاد. ويوضحان أن الاستمرارية كانت بفعل الإغراء من التغيرات في التكوين الاجتماعي للدولة عبر تعيين آلاف القادة الشعبيين في مواقع بالسلطة، وتوزيع الدخل في الهامش عبر نمو اقتصادي أسرع وتحويلات فيدرالية. لكن هذه الدائرة النزيهة كانت مقيدة بالهشاشة السياسية. وكثيراً ما تعرض لولا للهجوم من قبل النخبة النيوليبرالية والطبقة المتوسطة، إلى أن قادت فضيحة الفساد إلى انهيار «تحالف الخاسرين» في 2015. حينها ردّ لولا بتحالف جديد هو»تحالف الفائزين»، إذ جمع المجموعات التي استفادت كثيراً خلال إداراته الأولى. فقد دعموا المحاولة الناجحة لأجل إعادة الانتخاب في 2006.
ويعودان إلى انتخاب لولا قائلين: «انتخب لولا دي سيلفا، مؤسس حزب العمال البرازيلي رئيساً في عام 2002، بشكل جزئي كرد فعل على حالات عدم المساواة وعدم فعالية النيوليبرالية. مع ذلك، لم يعنِ انتصاره الكثير حتى منحت الرياح الواعدة لانتعاش البضائع العالمية، الحكومة ما يكفي من الحرية لتوسيع قيم المواطنة، ورفع الأجور، وتنفيذ سياسات توزيعية ناجحة وإن كانت هامشية بشكل متفاوت، من دون استعداء الكثير من المصالح».
وفي نهاية إدارته الأولى، يقول الكاتبان إن «رد فعل النخبة ضدّ الدمقرطة الزاحفة للاقتصاد والمجتمع دفع لولا إلى زاوية سياسية بدا الهروب منها مستحيلاً. لكنه قام بالهرب، وبموهبة عالية. فقد أسس ائتلافاً سياسياً واجتماعياً يدعم باعتدال السياسات الاقتصادية الابتداعية ويشكل دفعاً أقوى لأجل توزيع الدخل. وفي سياق عالمي لا مثيل له في منتصف سنوات ال2000، أثارت هذه السياسات انتعاشاً صغيراً؛ إنجازات لولا توجت بمجد دولي، وعبر عنها من خلال صعود البرازيل بين دول «البريكس»، واستضافة البرازيل لكأس العالم 2014، ثم الألعاب الأولمبية والبارالمية. لكن الأوقات الجيدة لم تدم طويلاً».
فضائح الفساد
أصبحت البيئة الاقتصادية العالمية عدائية في 2008، وتكررت الأخطاء بسبب السياسات المنتهجة، وعدائية النخبة المستمرة أربكت الإدارة التي قادها خلف لولا، ديلما روسيف. يقول الكاتبان تعليقاً على ما حدث حينها: في النهاية، انهارت حكومتها وسط أشد أزمة اقتصادية في تاريخ البرازيل المدوّن. بحلول 2016، أصبح الاقتصاد البرازيلي في حالة من الدمار. وخفضت الانكماشات المتعاقبة للإنتاج الوطني دخل الفرد وأعادته إلى مستواه في السنوات الأولى من الألفية الجديدة، كما أزالت المكاسب تحت إدارات حزب العمال. ارتفعت نسبة البطالة من 4 في المئة إلى 14 في المئة بين 2014 و2016، مع فقدان ملايين الوظائف. تضاعف العجز المالي والدين العام المحلي، والشركات الكبرى في النفط، وبناء السفن، والبناء، والطاقة النووية، وتعليب الأغذية، والصناعات الأخرى تضررت بشكل خطير.
أما على الجانب السياسي، يقول مؤلفا الكتاب إن الدستور كان ممزقاً. فالرئيسة روسيف كان يهيمن عليها ائتلاف من مجموعات اجتماعية ذات امتيازات كان قادتها متورطين على ما يبدو في سلسلة غير منتهية من فضائح الفساد. والهيئة القضائية مضت بقسوة في إجراءاتها، حيث عطّلت كلاً من الاقتصاد والنظام السياسي بذريعة مكافحة الفساد. وفقد الكونغرس شرعيته الأخلاقية، وحلت الفوضى في مفاصل السلطة التنفيذية. كره حزب العمال الواضح للنخبة، جعل اليسار والفقراء أخيراً في حالة من اللامبالاة للنتائج الاجتماعية للانقلاب.
تغييرات
يستطلع الفصل الثامن التغيرات السياسية والاقتصادية والتوزيعية المرتبطة بالانتقال إلى الديمقراطية وإلى النيوليبرالية، بالتركيز على التغيرات في الهيكل الطبقي للبرازيل وأشكالها السياسية للتعبير.
يعاين الفصل فئتين من البرجوازية (البرجوازية الداخلية والمدوّلة)، الطبقة الوسطى، البروليتاريا الرسمية وغير الرسمية. كما يتحدث الكاتبان عن التغييرات في الهيكل الطبقي، وأن هذه الآراء تشير إلى تفسير واضح لهذه الاحتجاجات التي بدأت في 2013 ضد روسيف. ويرى الكاتبان أن هذه الاحتجاجات كانت مهمة لأربعة أسباب هي:
* أولاً: كانت أكبر الاحتجاجات الجماهيرية التي تخرج في البرازيل على مدى جيل كامل.
* ثانياً: أشارت هذه الاحتجاجات إلى حدوث شرخ يتعذر إصلاحه في قاعدة دعم حزب العمال البرازيلي والإدارة المشلولة لديلما روسيف.
* ثالثاً: أشارت الاحتجاجات إلى ظهور شكل جديد من الاحتجاج السياسي في ظل النيوليبرالية التي وضحتها فكرة جعل السياسة تدار بيد طبقة شبه بروليتارية أو «لومبنبروليتريا» أي الفئة الأقل مستوى من الطبقة الكادحة وفق المفاهيم الماركسية.
* رابعاً: بدأت الاحتجاجات من صفوف اليسار لكن اليمين هيمن عليها، وفي هذا إشارة إلى إعادة تشكيل لقاعدة جماهيرية لأجل أقصى اليمين لأول مرة في نصف قرن.
يحلل الفصل التاسع انهيار إدارة روسيف كنتيجة احتشاد الثورات التي قادها «تحالف الامتيازات». إذ تضمن هذا التحالف أغلب النخبة، خاصة تيار الإعلام السائد، والمال، والرأسمال الصناعي، والطبقة الوسطى، والهيئة القضائية، والشرطة الفيدرالية، والشرائح الكبرى من قاعدة الحكومة في الكونغرس البرازيلي.
ويقول الكاتبان إن «سلسلة من حالات عدم الرضى اجتمعت معاً من خلال انهيار الاقتصاد منذ 2011. وتم تكثيفها عبر فضائح الفساد التي ركزت على حزب العمال، وخاصة عملية «لافا جاتو». يتوقف الفصل عند تورط حزب العمال مع الفساد ودور الطبقة الوسطى في فضائح الفساد والطريقة التي تم استخدام الفساد فيها كأداة لتدمير روسيف وحزب العمال.
ويقول الكاتبان في النهاية: بهذا المعنى، كان الاتهام أكثر من مسألة النهاية المعذبة للحكومة، أو حدوث هجمة عنيفة ضد حزب العمال. فاتهام روسيف عبّر عن التناقضات بين النيوليبرالية كنظام تراكم والديمقراطية كشكل سياسي. وهذه التناقضات تطورت إلى مأزق تاريخي حيث لم يعد هناك من إمكانية لتشكيل قوى سياسية يمكن أن تفرض هيمنتها وأن تضمن الاستقرار السياسي أو تستعيد النمو الاقتصادي.