الأسود جمال
في البدايات الأولى لتأسيس الإمبراطورية الأمريكية نلحظ اختلاف عميق بين ذهنية المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة الأمريكية وذهنية معظم زعمائها الحاليين، إذ لا يمكن مقارنة عنجهية هؤلاء بمبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة التي دافع عنها المؤسسون الأوائل، أمثال جورج واشنطن وطوماس جيفرسون وإبراهام لنكولن، هذا الأخير الذي أصر على مواصلة الحرب ضد الجنوب بمقولته الشهيرة ” لا يمكن أن نكون إلا أمة حرة لا عبيد فيها ” وقام أقرب أصدقائه ومستشاريه من البيض بتسليم نسخة كهدية من بيان تحرير العبيد الذي وافق عليه الكونغرس بعد صراع عنيف إلى زوجته السوداء، والتي كانت خادمته، بكل شجاعة وبدعم من لنكولن، و قد عاود الحنين هذه الأيام الكثير من أعضاء وكوادر الحزب الديمقراطي إلى تلك الأيام الدافئة، إذ يرون في وصول شخص كدونالد ترامب إلى الرئاسة هو خذلان للمبادئ التي قامت على أساسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهم مرغمون على دعمه حفاظا على أمريكا، ويرون في مساندته لانكفاء بريطانيا على نفسها، بعد الخروج من الإتحاد الأوروبي جهل بحقيقة أن الإمبراطورية الأمريكية خرجت إلى العالم من خلال انتصارها العسكري والاقتصادي والسياسي على الانجليز، ويبدو على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تماديه غير المتحفظ في إصدار القرارات والأوامر والتصريحات التي سببت كثير من الإرباك، ليس في الداخل الأمريكي فقط بل مس هذا الإرباك كثير من دول العالم، إلا أن ظاهرة ترامب le trumpisme ،التي ينظر إليها البعض على أنها هيجانا سياسيا ليس إلا، رأى فيها كثير من رجال السياسة والإعلام والأكاديميين أنها فعلا ظاهرة ملفتة للانتباه، إذا امتدت لفترة طويلة ستحظى بالدراسة والتحليل والتنظير وقد عُرف عن العلوم السياسية والاجتماعية بروزها في أوروبا بدراسة الظواهر، ونشر مضمونها ونظرياتها لدى بقية شعوب العالم بواسطة الإيديولوجيا الأمريكية خلال القرن العشرين، ويرى هؤلاء أن تصرفات ترامب الخارجة عن المألوف تؤسس ربما لمفاهيم سياسية جديدة تنبثق عن هذه التصرفات أو عن تداعياتها، إذ ما الداعي إلى عزل الإمبراطورية التي لها تأثيرها الثقافي والأمني والسياسي العميق على كل بقاع الأرض بجدار إسمنتي، والتضييق على الهجرة والسفر إليها، زد على ذلك شعار أمريكا أولا وما فيه من نغمة مؤثرة موجهة إلى المجتمع الأمريكي الساخط الدائم على السياسات الخارجية السابقة، ويقول الخبراء لو طالت مدة رئاسة ترامب إلى عهدة ثانية، ونجح في بعض أو جل ما بادر إليه، وعملت دول أخرى على منواله فإن ظاهرة ترامب ستكون ضربة قاصمة للعولمة لأن قائدها يوغل في الانكفاء على نفسه، ويرى المعارضون لهذه الفكرة أن ما يحدث مع ترامب ما هي إلا رداءة تجتاح العالم على جميع المستويات، سببها التخمة الناتجة عن عنفوان المال والتكنولوجيا اللذان تسببا في تزايد مستوى الأنانية لدى الأفراد والجماعات والأمم، ثم يرى آخرون أن لهجة التخاطب مع روسيا من طرف ترامب، وعزمه المساهمة في محاربة الإرهاب وإعطاء الأولوية لإستقرار الدول بدل مناهضة الديكتاتورية يحمل وجها آخر للعولمة، وربما يكون عهد ترامب امتدادا لسياسة المحافظين الجدد الذين انبروا لإبراز الهوية الجديدة للنظام الإمبراطوري الأمريكي في استراتيجية الأمن ألقومي، ولكن واقع الحال يشير إلى أن هناك تبادل للأدوار فقط، يفرضه كل مرة واقع الصراعات التي تجتاح العالم، مما يجعل دولة كالولايات المتحدة الأمريكية تحكمها وتتحكم فيها مراكز قوى ونفوذ متعددة على حساب القانون الأمريكي، لا تلبث هذه الأدوار أن تصطدم بظروف دولية جديدة تدفع الى ظهور كيانات جديدة، فتُفرز في كل استحقاق سياسات أمريكية جديدة، لا تخلو من الاعتدال والتطرف، وما الترامبيزم إلا ظاهرة عابرة ومؤقتة، ولن تكون ظاهرة بحجم مصطلح سياسي بأي حال من الأحوال.
زر الذهاب إلى الأعلى