التفاوض الصفري في الصراع السوري
حسام ميرو
توقّع مراقبون كثر منذ مفاوضات «جنيف 2» بين النظام السوري والمعارضة أن يتحوّل التفاوض إلى مسلسل طويل، وكانت توقعات المراقبين في مكانها، فأداء الطرفين منذ اندلاع «الانتفاضة» السورية لم يتسم بالعقلانية السياسية، فالنظام السوري، وبحكم ما بجعبته من أوراق محلية وإقليمية، نظر إلى خصومه في المعارضة السورية باستعلاء، معتمداً على تجربة الثمانينات في صراعه مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، ما جعله يرجّح كفة استخدام العنف المفرط، لإحداث صدمة عند المجتمع أولاً، وعند المعارضة ثانياً، وليؤكد على أن مقارعته ستكّلف الجميع أثماناً باهظة.
في المقابل، اعتمدت المعارضة السورية على قراءة خاطئة لواقع ما يسمى «الربيع العربي»، معتقدة أنه بمجرد إيجاد جسم سياسي يمثل المعارضة، ويحظى بدعم إقليمي ودولي، على غرار النموذج الليبي، فإن ذلك سيكون كفيلاً ليقوم حلفاؤها بإسقاط نظام الأسد، ودعوة المعارضة إلى استلام مفاتيح الحكم في دمشق. وبناءً على تلك القراءة التي لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام السوري، ولا المكانة الجيوسياسية لسوريا، فقد رفعت المعارضة من سقف خطابها، بل حددته كثوابت لا يمكن التنازل عنها، ولا التفاوض عليها.
وفي البعد الإقليمي، اعتبر حلفاء النظام أن أي تنازل للمعارضة السورية هو بمثابة تنازل للدول الداعمة للمعارضة، وبناءً على هذا الموقف فقد أسهموا في دفع الصراع الوطني السوري إلى حالة المواجهة المسلحة مع الانتفاضة، مع رفض مطلق للحوار مع المعارضة السورية، أو مع الدول الداعمة لها إقليمياً ودولياً، وفي المقابل فإن حلفاء المعارضة أيضاً اتخذوا موقفاً مشابهاً لموقف حلفاء النظام، ما جعل الساحة السورية ساحة حرب محلية وإقليمية في الوقت نفسه.
خلال السنوات السابقة من عمر المأزق الوطني السوري، تعقدت أسباب الصراع، وتداخلت ملفاته، وتحوّلت مساراته، كما شهدت الحالة السورية انعطافات عدة، وخسر النظام والمعارضة الكثير من أوراق قوتهما، فلم يعد النظام سوى لاعب صغير قياساً لحلفائه، كما أن المعارضة تعددت ولاءاتها، وأصبح من الصعب جمعها على أجندة واحدة، في الوقت الذي خسرت فيه سوريا الكثير من مقوماتها العمرانية والبشرية والمادية، وتمزّق نسيجها الوطني، مع ظهور الهويّات الفرعية وتحولها إلى هويّات أساسية في الصراع، وعلى الرغم من ذلك فإن النظام والمعارضة ما زالا متمسكين برؤيتهما للحل، من دون أن يتقدما بأي مقترحات من شأنها الإيحاء بأنهما يدخلان التفاوض من أجل إنجاز حل وطني، يتجاوز المصالح الضيقة لكلا الطرفين، ويضع سوريا أمام منعطف مختلف، يمنح الأمل للسوريين بنهاية قرب الصراع.
إن السقف الذي وضعه النظام للتفاوض هو قيام حكومة وحدة وطنية، تشترك فيها المعارضة، مع احتفاظه بمواقع القوة والنفوذ، وتحديداً في البنيتين الأمنية والعسكرية، وهما البنيتان اللتان تمثلان جوهر النظام، وهو ما يعني فعلياً أنه يريد الالتفاف على مطالب الشعب والمعارضة في آن معاً، من دون أن يأخذ بالحسبان جملة المتغيرات التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية، والتي لم تعد تسمح باستمرار هاتين البنيتين على حالهما، ليس فقط بالاستناد إلى كونهما سبباً رئيسياً من أسباب قيام «الانتفاضة» السورية، بل أيضاً لكونها سبباً رئيسياً في تحولها إلى صراع مسلح، واستبعاد السياسة لمصلحة الفعلين العسكري والأمني في مواجهة المعارضة.
في المقابل، فإن المعارضة السورية ما زالت هي الأخرى متمسكة بسقف مطالبها التي كانت في 2011، من دون الأخذ بالحسبان جملة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي مرّت بها القضية السورية، وفي مقدمتها المتغيرات العسكرية، وتراجع نفوذ الجماعات الإرهابية والمعارضة المسلحة، والذي كان يشكل نقطة استناد كبرى للمعارضة السياسية، قبل سقوط حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016، ودخول قوى سياسية جديدة إلى دائرة القرار التفاوضي للمعارضة، والممثل بالهيئة العليا للمفاوضات، وهي قوى قريبة في رؤيتها إلى أهم داعم للنظام، وهو روسيا.
في ظل هذه المعطيات، فإن المسار التفاوضي بين النظام والمعارضة هو مسار معقد، ومن غير المتوقع أن يصل إلى نتائج سريعة، فأهم خطوة في نجاح أي مفاوضات هو قناعة مختلف الأطراف بضرورة تقديم تنازلات، حتى لو كانت مؤلمة، حتى لا يبقى التفاوض صفرياً بين الطرفين، وهو ما يحتاج إلى عملية ضغط من قبل القوى الإقليمية والدولية على النظام والمعارضة معاً، مع تحديد بنك واقعي وعملي للأهداف، بحيث تكون مخرجات التفاوض قابلة للتطبيق، وأن تحظى بقبول السوريين، خصوصاً فيما يتعلق بهيكلة البنى العسكرية والأمنية، إذ ليس معقولاً بعد ما جرى في سوريا أن تتم إعادة تدوير هاتين المؤسستين، أو الانتقال من نظام الاستبداد إلى نظام المحاصصة، وهو ما تم اختباره في التجربتين اللبنانية والعراقية، وأثبت أنه وصفة مؤكدة لعدم الاستقرار الدائم.
husammiro@gmail.com