التفتيش عن الثوابت والالتزامات القومية
د. علي محمد فخرو
يحار الإنسان عندما يحاول معرفة الثوابت المبدئية السياسية والالتزامات القومية العروبية التي تحكم الممارسات السياسية لأنظمة الحكم العربية في أيامنا الحالية. بالطبع هناك فروق بين الأنظمة تلك في نوعية وصدق الثوابت وفي مدى الالتزام القومي، لكن هناك صورة مشتركة لهذا الوضع العربي البائس والمحيّر.
لنأخذ بعض الأمثلة ونفتش في ثنايا الأحداث والمواقف وما تتداوله شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة عن تلك الثوابت والالتزامات. سنرى الغرائب والتراجعات والتخبط.
المثال الأول هو ما تتداوله شبكات التواصل من أن ما يدعى ب «صفقة القرن» الأمريكية بشأن القضية الفلسطينية، ستقترح على العرب بناء وطن فلسطيني بديل يشمل أرض غزة المنكوبة وحوالي نصف صحراء سيناء، ويعطى للاحتلال المغتصب خمسة وتسعين في المئة من فلسطين التاريخية.
لسنا معنيين بالأحلام الأمريكية البليدة المبتذلة بشأن إدارة أمور وطن العرب وفرض الوصاية على أمتهم. لكننا معنيون بادعاء مصادر الخبر (قد يكون كاذباً وبالون اختبار) بالقبول الرسمي بالعرض، من خلال مساعدات بالمليارات وتعويضات لبناء ذلك الوطن.
لو أن المصادر «الإسرائيلية» التي سرّبت الخبر، نشرته قبل خمسين سنة لما أضعنا دقيقة من وقتنا في قراءته واعتبرناه أضغاث أحلام. في الماضي كنا نعرف الثوابت والالتزامات واللاءات المعلنة التي تحكم الموضوع الفلسطيني من قبل جميع أنظمة الحكم العربية.
أما الآن فإننا، ويا لهول المأساة، أمام ألف سؤال وسؤال وسيل متلاطم من الشكوك. فالرأي العام العربي ما عاد يعرف إن بقيت خطوط حمر لن يسمح بتخطيها من قبل أية جهة عربية، مهما كان الثمن، ومهما عظمت التضحيات. وما عاد الرأي العام العربي يعرف ما هو المقبول وما هو المرفوض. والأدهى أن الرأي العام لا يسمع تعليقات أو تفسيرات رسمية لتخبره عن رد الفعل العربي تجاه كل تلك الأقاويل.
ولأن هناك غياباً شبه تام للثوابت السياسية والالتزامات القومية، أصبحت موضوعات أساسية من مثل فجيعة تفاصيل عملية التطبيع مع العدو، وشعار يهودية الجزء المحتل من أرض فلسطين، ومصير القدس النهائي، ورجوع اللاجئين إلى أراضيهم وبيوتهم، ومقدار ونوع وأهداف التنسيق الأمني مع الاستخبارات «الإسرائيلية»، والموقف العربي المشترك من التواطؤ الأمريكي ضد العرب، أصبحت جميعها، إما أسراراً غير معروفة وإما قرارات أحادية لا تتناغم مع الإرادة العربية المشتركة.
المحصلة أن غياب الثوابت والالتزامات الواضحة جعل موضوع الصراع العربي – «الإسرائيلي» التاريخي، الذي مات من أجله الألوف وضحّت الأمة في سبيل حلّه بالغالي والرخيص، ساحة ظلام دامس وفوضى لا تحكمها مبادئ ولا معايير ولا التزامات قومية أو أخلاقية أو حتى إنسانية.
المثال الثاني هو الموقف العربي من الهجمة البربرية الإرهابية، المسماة زوراً بالإسلامية، على كل الوطن العربي وكل مجتمعاته. بعد مرور كل تلك السنين لهذه الظاهرة المجنونة الهمجيّة، وبالرغم مما أحدثته من دمار عمراني ومجازر بشرية، وبالرغم من ثبوت ارتباط قياداتها بالمخابرات الأجنبية الراغبة في إنهاك أمة العرب وتجزئتها إلى نتف، بالرغم من كل ذلك لا تزال مواقف الدول العربية بالنسبة لهذا الموضوع متباينة ومتضادة إلى أبعد الحدود. ما زالت بعض الأنظمة العربية تدعم هذا الفصيل الإجرامي أو ذاك، في هذا البلد العربي أو ذاك، نكاية بهذا النظام العربي أو ذاك أو خدمة لهذه الدول الاستعمارية أو تلك.
لقد كان غياب المبادئ السياسية العربية المشتركة والالتزامات القومية الواضحة للتعامل العربي المشترك مع هذا الموضوع البالغ الخطورة، بل والمصيري في الحياة العربية الحديثة، فضيحة من فضائح هذا الزمن العربي الرديء البائس البليد. فلا الجامعة العربية نجحت في وضع تلك الثوابت والالتزامات ولا مؤسسة القمة العربية الكسيحة تعاملت مع الموضوع بمسؤولية وضمير يقظ.
وإلى اليوم، وإلى الغد المنظور، تبقى الإرادة العربية المشتركة مشلولة وعاجزة أمام هذه الظاهرة التي تهدّد بزوال أوطان أو تفتيتها أو إخراجها من التاريخ أو تسليمها لقمة سائغة إلى الغول «الإسرائيلي» المستعد لابتلاع المزيد والمزيد من أرض العرب.
أمثلة ثالثة ورابعة وخامسة إلخ.. ودون دخول في التفاصيل المعقّدة، غياب ثوابت مبدئية سياسية عربية والتزامات قومية مسؤولة تجاه موضوعات من مثل استباحة سوريا العربية من كل من هبّ ودبّ، والمؤامرة الإرهابية في سيناء، المدعومة من حقارة الخارج الاستعماري وجنون الداخل العربي، والمؤامرات الخارجية والداخلية لبناء قوى عرقية انفصالية تؤدي إلى تجزئة هذا القطر العربي أو ذاك، وفضيحة الفشل في بناء اقتصاد عربي مشترك وفي بناء قدرات تصنيعية عسكرية مشتركة، وغياب الموقف العربي المشترك تجاه العبث الأمريكي في كل ساحات الأرض العربية، والوباء العربي الجديد المتمثل في السماح ببناء القواعد العسكرية الأجنبية عبر الوطن العربي كلّه، وإرجاعه إلى فترات الانتداب والاستعمار.
لنذكّر من لا يقرأون ولا يبحثون بأن الاتحاد الأوروبي ما كان لينجح في الوصول إلى ما وصل إليه، بالرغم من كل مشاكله الحالية، لو لم يتفق منذ البداية على ثوابت مبدئية سياسية تحكمه والتزامات لا يتخطاها أحد. وعلى العرب أن يتعلّموا من ذلك الدرس.
أملنا في أن توجد مجموعة من الأنظمة العربية، التي نرجو أن تتمتع بشيء من العقلانية والخوف على مصير أمتها العربية، أن تسعى لطرح موضوع تأسيس الثوابت والالتزامات من جديد، بعد أن فشلت الجامعة العربية ومؤسسة القمة العربية في معالجة هذا الموضوع الإنقاذي والمصيري الوجودي.
hsalaiti@kpmg.com