التوافق الوطني الغائب عن السياسة الأمريكية
عاطف الغمري
هناك من الظواهر ما يشير إلى أن الولايات المتحدة افتقدت عنصراً كان له تأثيره البالغ في أداء النظام السياسي الأمريكي، وهو ما يعرف سياسياً بالتوافق الوطني national consensus. وربما تكون انتخابات الكونجرس الأخيرة قد أعادت التأكيد على غياب هذا العنصر، والذي سبقته انقسامات النخبة، خاصة منذ مجيء دونالد ترامب إلى الحكم، وقبلها الانقسامات الشديدة في صفوف الناخبين في سباق انتخابات الرئاسة عام 2016.
كان هذا التوافق – كمصطلح مستقر في الحياة السياسية الأمريكية – مؤثراً طوال عشرات السنين الماضية في قدرة الرئيس الأمريكي على أداء مهامه، حين كان التوافق يلعب دوره الداعم للرئيس خاصة في سياسته الخارجية حتى ولو كانت هذه السياسة محل خلاف داخلي على مستوى النخبة، أو في الكونجرس، أو على مستوى الرأي العام.
وحين كان الرئيس يقدم لشعبه هذه السياسة على أنها لصالح الولايات المتحدة، وأمنها القومي، فقد كانت الخلافات تتوارى، ويحظى الرئيس بالتأييد الذي يمكنه من تنفيذ سياساته. وهو ما جرى مثلاً عندما قرر الرئيس بوش غزو العراق، مصوراً لشعبه أسباب إقدامه على الحرب، بوصفها ضرورة للقضاء على خطر حصول صدام على أسلحة دمار شامل. وبالرغم مما ثبت للرأي العام بعد ذلك فإن المبررات التي ساقها بوش، كانت زائفة، إلا أن بوش كان قد حقق ما يريد، وانتهى الأمر.
ونستطيع أن نلاحظ أن انفراط عقد التوافق، لم ينعكس فقط على الانقسامات الظاهرة في صفوف الرأي العام، بل إنها اتسعت داخل صفوف النخبة، التي كانت تاريخياً تملك رؤية تكاد تكون متقاربة في كثير من المواقف، ولم تكن الخلافات قد دبت بينها بالشكل الذي أصبحت عليه.
والتوافق يعد حالة قديمة في الحياة السياسية الأمريكية. وسبق أن لعب أدواراً في كثير من الظروف والأحداث. وعلى سبيل المثال فقد كان الشعب الأمريكي في سنوات الحرب الباردة، يعلن عن مطالب اجتماعية، تحتاج أن تخصص لها الدولة جانباً مهماً من اتفاقها. لكن الرؤساء كانوا يعلنون لهم أسباب عدم قدرتهم على الوفاء بهذه المطالب، وهي أنهم في صراع عالمي مع الاتحاد السوفييتي، يلزمه أن تكون بنود الإنفاق مخصصة أولاً لمتطلبات هذا الصراع، وخاصة في مجالات التسليح، أو في شبكات القواعد العسكرية على مستوى العالم، وعلى العلاقات مع حلفاء يشاركون في جبهة المواجهة في هذا الصراع.
وحين انتهت الحرب الباردة، وظهرت بوادر توحي بانتقال العالم إلى عصر، تتراجع فيه المواجهات، ويعم السلام، مع تبوؤ الولايات المتحدة وضع القوة العظمى الوحيدة، فقد بدأ ينتشر بين الأمريكيين توجه ينادي بالحصول على ثمار السلام Peace dividene وهو المصطلح الذي تردد وقتها، ويعني تحقيق المطالب الاجتماعية التي وافق الأمريكيون من قبل على تأجيلها، أو تجميدها، بتأثير مبدأ «التوافق» Consensus.
ويتذكر الأمريكيون الفترة التي انطلق فيها الانقسام الداخلي بقوة، أثناء سباق الانتخابات الرئاسية عام 2016، وحين فوجئ الحزب الجمهوري بأن ترامب يتفوق على جميع منافسيه، مما أحدث ردود فعل بين الجمهوريين ترفض ترامب كمرشح للحزب، حتى أن المؤرخ روبرت كيجان وهو جمهوري كتب يقول: إن الكارثة التي حلت على الحزب الجمهوري، بالانقسام في صفوفه، تتجاوز دائرة الجمهوريين، إلى المجتمع كله، وأن مفعوله يمتد إلى المستقبل. بل إن نشطاء جمهوريين وقعوا خطاباً مفتوحاً أعلنوا فيه أنهم لن يؤيدوا ترامب، حتى ولو فاز بترشيح الحزب. وهو ما جسد الصورة الصارخة للانقسام داخل النخبة. ومع ذلك حنى الحزب رأسه أمام اكتساح ترامب للسباق، وقرر تأييده مرشحاً للحزب، حتى لا يخسر المنافسة أمام مرشحة الحزب الديمقراطي.
منذ ذلك الحين صار الانقسام ظاهرة واضحة للجميع على مستوى الرأي العام والنخبة على السواء. وهو تطور يعني تراجع فاعلية مفهوم التوافق التقليدي في الحياة السياسية، والذي كان سبباً مهماً من أسباب قدرة الدولة على إدارة سياستها الخارجية، بالصورة التي لا تشكك الآخرين في احترامها لالتزاماتها التاريخية تجاه الدول الأخرى، والتي تظهر الرئيس مستنداً إلى دعم داخلي قوي من شعبه، وليس واقفاً ووراءه انقسامات داخلية.