التّحكيم والحلول المستدامة
د. إدريس لكريني
تعقّدت الأزمات الداخلية كما الدولية في عالم اليوم، من حيث أسبابها وحدودها والعوامل التي تغذّيها، وهو الأمر الذي يطرح أهمية وضرورة تطوير الوسائل اللازمة للتعامل معها بقدر من النجاعة، باعتماد آليات متطورة في تدبيرها وبسبل تنحو إلى تحقيق الجودة من جهة، وحفظ المصالح واعتماد السرعة في هذا الصدد، بصورة عقلانية تتحوّل معها الأزمات من مصدر تهديد إلى فرص للإبداع والانطلاق والوقاية منها في المستقبل. خصوصاً أن التأخر في التعاطي مع الأزمات بقدر من الفعالية في عالم متشابك ومتصل بمنظومة معقّدة من المصالح، يفرز خسائر كبرى على شتى الواجهات.
أتاح المشرع الوطني كما الدولي، إمكانية اللجوء إلى عدد مختلف ومتباين من السبل الكفيلة بتدبير الأزمات والمخاطر، فيما تعرّض العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية بدورها لمجموعة من السبل السلمية من هذا القبيل (مثلاً، المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة)، ودعت الدول لاتباعها في تدبير ما قد يقع بينها من مشاكل ونزاعات.
إن تنوّع الآليات اللازمة لتدبير الأزمات في عالم اليوم، ينسجم إلى حدّ كبير مع تباين المشاكل المطروحة من حيث خلفياتها وحدّتها ونطاقها، ما يتيح للفاعلين اختيار الممكن والملائم من هذه الآليات، بما يتناسب مع طبيعة هذه الأزمات أيضاً، سواء كانت اقتصادية، أو تقنية، أو إدارية، أو سياسية، أو عسكرية..
ويندرج أسلوب التحكيم ضمن هذه السبل التي أثبتت جدارتها وأهميتها في تقديم حلول مستدامة بصدد عدد من الأزمات الداخلية والدولية. ويحيل التحكيم إلى تلك العملية المتعلقة بالفحص والنظر في النزاع أو الأزمة، وفي جذوره من قبل شخص أو هيئة، وهي آلية يلجأ إليها المتنازعون أنفسهم، مع إقرارهم المسبق بالتزامهم بتنفيذ القرار الذي سيصدر في النزاع، وبهذا يتميّز التحكيم عن بعض المفاهيم المشابهة كالوساطة والتوفيق.
حقيقة أن استعمالات هذه التقنية تمتد لعصور قديمة، وقد تنامى اللجوء إليها لحل الخلافات والأزمات في العقود الأخيرة، على الصعيدين الداخلي والدولي، اقتناعاً بأهميته وفعاليته ومرونته، مقارنة مع عدد من السبل التقليدية الأخرى المطروحة في هذا الصدد..
تزايد الاهتمام بالتحكيم في الأوساط الأكاديمية، وحظي بعدد كبير من الكتابات والمؤلفات والاجتهادات، كما أضحى محطّ اهتمام على المستوى العملي من قبل عدد من المؤسسات في القطاعين العام والخاص، وطنياً ودولياً، اقتناعاً بأهميته وجدواه وسرعته في الحدّ من الخسائر.
ففي المجالين الاقتصادي والتجاري، أصبح اللجوء لهذه الآلية أمراً مألوفاً لتسوية الخلافات، وساهم في بلورة حلول مستدامة بصدد عدد كبير من القضايا المعقّدة بطرق مرنة، بل أصبحت هذه الآلية من بين العوامل التي ساهمت في تشجيع الاستثمار، وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية وتشبيكها وضمان استمرارها واستقرارها على الصعيدين الداخلي والدولي.
في هذا السياق، نظّم أخيراً، مختبر الدراسات الدولية حول تدبير الأزمات بتعاون مع «مؤسسة هانس سايدل» الألمانية، ندوة دولية حول «التحكيم وتدبير المخاطر والأزمات» في مدينة مراكش، بمشاركة عدد من الباحثين والخبراء من المغرب وروسيا والجزائر وإسبانيا.
تنوّعت أشغال هذا اللقاء العلمي الذي قدّمت خلاله مداخلات قيّمة من زوايا معرفية مختلفة، تراوحت بين العلاقات الدولية والقانون الدولي والقانون والعلوم الإداريين وعلم الاقتصاد والقانون الدستوري وعلم الاجتماع والقانون الخاص.. تم التطرق خلالها للسياقات المفاهيمية للتحكيم، ولعلاقته بقضايا التجارة والاستثمار، قبل تناوله ضمن السياقات المقارنة.
وبعد نقاشات مستفيضة أغنتها تدخلات الحضور من الطلبة والباحثين والخبراء الحاضرين، تم طرح مجموعة من التوصيات، التي أجمعت على أهمية هذه الآلية وعلى ضرورة تعزيز دورها في الواقع العملي، وجعلها إجراء وقائياً، قبل اللجوء إلى القضاء في منازعات العقود الإدارية، مع الدعوة إلى نشر وإشاعة ثقافة استخدام الوسائل البديلة لتسوية المنازعات والأزمات، من خلال مقاربة تشاركية مفتوحة أمام مختلف المتدخلين في مجال هذه الوسائل من قضاة ومحامين وأساتذة جامعيين وفاعلين اقتصاديين..
وطالب المتدخلون بإصدار مدوّنة للتحكيم، تدعم رفع اللّبس الحاصل بين مفهوم التحكيم والوساطة الاتفاقية على مستوى التطبيق، والتحسيس بأهمية هذه الآلية باعتبارها وسيلة لترشيد النفقات والوقت وتقليص المسافات بين الأطراف المتنازعة، وتوسيع دائرة استخدامها، والتعامل مع قضية التحكيم في فض المنازعات باعتبارها الوسيلة الأكثر تحقيقاً للأمن القضائي إلى جانب قضاء الدولة.
كما دعوا أيضاً إلى تأهيل المنظومة القضائية، بما يتماشى والتوجه العالمي الراهن، والقائم على إلغاء البعدين الجغرافي أو السياسي، انسجاماً مع التطورات التي فرضتها التجارة الإلكترونية،التي تجاوزت منطق التوطين وخضوعها لانهيار فكرة المكان.
وحرصاً على منع الانحرافات التي من شأنها أن تطال هذه الآلية واستغلالها من قبل بعض الشركات والمؤسسات الكبرى، دعت بعض المداخلات إلى ضرورة عودة الدولة إلى الواجهة فيما يتعلّق بعقلنة التحكيم الدولي، وإلى إبرام معاهدات تحكيم دائمة، وإدراج بند التحكيم الدولي ضمن أحكام المعاهدات التي تبرمها الدول فيما بينها، حتى يكتسي التحكيم طابعاً إجبارياً، وتفعيل دور محكمة التحكيم الدائمة في حلّ النزاعات الدولية، وإنشاء جهاز ضمنها له الصلاحية في اتخاذ الإجراءات اللازمة، في حال تخلّف الدولة عن تنفيذ قراراتها.
وطالب آخرون بإجراء تعديل المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، بصورة تخوّل مجلس الأمن الحق في اتخاذ التدابير اللازمة ضد الدول التي لا تنصاع لتنفيذ قرارات التحكيم الدولي. وبإحداث آلية دولية قارّة تابعة لمحكمة العدل الدولية أو للمحكمة الدائمة للتحكيم، لتقوم باتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة في حال عدم تنفيذ هذه الأحكام.
drisslagrini@yahoo.fr