الجيش الأوروبي وقوقعة القوة
محمد خليفة
انعقدت القمة العالمية في باريس الأسبوع الماضي؛ بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لنهاية الحرب العالمية الأولى، التي شارك فيها 68 مليون إنسان، وذهب ضحيتها 9 ملايين قتيل، و21 مليون جريح، و8 ملايين مفقود، وكان بينهم أفارقة ومغاربة على الجبهات الفرنسية، ومشارقة على جبهات القوقاز، ضاعت دماؤهم وبعدها تمزقت خريطة الدول العربية.
وقد حضر أكثر من 70 رئيس دولة وحكومة إلى باريس؛ من أجل التذكير بهذه الحقبة التاريخية المؤلمة، التي مرت بها أوروبا والعالم بزمانها ومكانها وإنسانها؛ وبغية تجنب امتطاء الحقبة القديمة؛ حيث تم اشتراع أيديولوجيا جديدة لنظام عالمي جديد، وفق ما حققته أوروبا من إنجازات مادية وعلمية رائعة، وما وفرته للإنسان في كل ميدان من ميادين عيشه؛ من رفاهية بفعل تاريخ التطور نحو الحرية والعدل، وإعلاء إرادة الإنسان. ومع ذلك فأوروبا قلقة على مستقبل أمنها وكينونتها، بالرغم أن المستقبل مغاير للماضي؛ لكنه في الوقت ذاته ينطوي على ملامحه، فالاتحاد الأوروبي يقف على شفير هاوية الانهيار في ظل الهيمنة الأمريكية والروسية والصينية. والمشاكل الاقتصادية، التي تطارد أغلب الدول الأعضاء. وبدأت تتعاظم في غالبية الدول المنضوية تحت لوائه، ويضاف إليها مشاكل الهجرة غير الشرعية والإرهاب.
هذه الدول ال27 كانت قد اتفقت على «خريطة طريق»، وحددت كأولويات لها، حماية حدود الاتحاد، وتعزيز الدفاع الأوروبي ومكافحة الإرهاب. وقد برز موضوع الدفاع الأوروبي المشترك، بشكل لافت؛ عندما دعا رئيس وزراء المجر إلى إنشاء جيش أوروبي موحد، من منطلق أن دولة بمفردها لن تكون قادرة على مجابهة الأخطار، التي تتمثل راهناً بالإرهاب. وتبدي ألمانيا اهتماماً منقطع النظير بفكرة الجيش الموحد؛ لرغبتها في تزعم قيادة هذا الجيش واستخدامه لخدمة مصالحها، بعد سنوات طويلة من حرمانها من أي دور مؤثر في الاستراتيجية الدولية. وقد صرّح الرئيس الفرنسي، يوم الثلاثاء الماضي، بحاجة أوروبا إلى جيش موحد، وفيها أشار إلى التهديدات، التي تحوم حول أوروبا وحاجتها إلى بناء جيش قوي؛ للدفاع عن أمنها. وقال:«لن نستطيع توفير الحماية لأوروبا إذا لم نبن جيشاً أوروبياً حقيقياً»، مضيفاً أنه: «يتعين علينا أن نحمي أنفسنا إزاء الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية». وجاء رد الرئيس الأمريكي عنيفاً إزاء تصريحات ماكرون:«هذا شيء مهين جداً، وربما يتعين على أوروبا أولاً أن تدفع ما يتوجب عليها للحلف الأطلسي، الذي تموله الولايات المتحدة الأمريكية».
ويرى الأوروبيون أنه من الأفضل أن تخصص هذه النفقات لجيوشهم؛ ذلك أن قواعد الناتو، إنما تعني القوات الأمريكية، وهذا ما تؤكده قاعدة «رامشتاين» في ألمانيا، التي تعد مركزاً رئيسياً للعمليات الأمريكية من غرب إفريقيا إلى أفغانستان؛ لكن هل يستطيع الأوروبيون اتخاذ قرار استراتيجي كبير؛ مثل إنشاء جيش موحد، وبما يجعلهم يستغنون عن الخدمات العسكرية الأمريكية؟. لا شك أن هناك ارتباطاً عضوياً بين أوروبا، ولاسيما الجزء الغربي منها، والولايات المتحدة، وهذا الارتباط قديم يعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ عندما اقتسمت القوى المنتصرة (الولايات المتحدة وبريطانيا) من جهة، والاتحاد السوفييتي السابق من جهة أخرى، قارة أوروبا؛ حيث وقع القسم الغربي منها بيد الولايات المتحدة، بينما سيطر السوفييت على القسم الشرقي، وقد ارتبط اقتصاد دول غرب أوروبا بالاقتصاد الأمريكي، كما أصبحت هذه الدول محمية بالمظلة النووية الأمريكية، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء حلف وارسو، نجحت الولايات المتحدة في السيطرة على دول شرق أوروبا، التي كان من المفترض أن تكون تابعة لروسيا، ومن ثم ظهرت أوروبا الجديدة، التي باتت معظم دولها أعضاء في حلف شمال الأطلسي، وأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
إن تلك الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة؛ لكسب قارة أوروبا، لا يمكن أن تنتهي إلى لا شيء؛ بل هناك ترتيبات أقامها الأمريكيون تجعل هيمنتهم على هذه القارة دائمة، طالما ظلوا قوة عالمية عظمى. إن شعور الأوروبيين بالحاجة إلى مزيد من الجهود المشتركة لحفظ الأمن في بلادهم، لن يجعلهم قادرين على إنشاء جيش موحد، إذا لم يكن هناك رضا أمريكي.
حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة لن تفرط بالجهود التي بذلتها في السنوات الماضية؛ من أجل توسيع الحلف باتجاه الشرق، وتقوية نفوذه في العالم. ومن المتوقع أن تستجيب دول أوروبا للضغوط الأمريكية؛ حيث ستزيد نفقاتها العسكرية داخل الحلف، وليس عبر تأسيس تشكيل جيش أوروبي مختلف. فالخريطة الأوروبية ليست خطوطاً جغرافية سهلة التغيير والتحوير، فالموقف ليس مجرد تسلط عسكري يفرضه الجيش العسكري حين يتوحد أو يمتلك نزعة التوسع والهيمنة من منظور اقتصادي وعسكري، وهو لا ينسجم مع التوجه العالمي الرافض لمبدأ القوة، خاصة إذا كانت هذه القوة الجديدة تتقاطع مع مصالح من هم في الواقع الأقوى نظرياً وعملياً.