مقالات عامة

الحبيب الأول

د. حسن مدن

في تأويل بيتي الشعر الشهيرين لأبي تمّام: «نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى/ ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّل/ِ كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى/ وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ»، يأخذنا الكاتب المغربي عبد الفتاح كليطو إلى ما لم يخطر في بال أحد سواه، على الأقل في حدود ما أعلم.
من سياق الحديث في المقال الذي تناول فيه الأمر نفهم أن ما أوحى له بما ذهب إليه هو سؤال وجهته إليه أستاذة فرنسية مهتمة بالأدب العربي عن ثلاثة شعراء ترد أسماؤهم في كتب النقد القديم لكنها لم تستطع أن تحدد من هم.
بدأت سؤالها بالقول: من هو أبو الطيب، فأجابها، وهو يواري شيئاً من خجل، إنه المتنبي، ما أسقط في يد المرأة التي تعرف المتنبي جيداً، لكن لم تكن تعرف أنه هو نفسه أبو الطيب، وسألته عن اسم ثانٍ شاءت الصدف أنه نفسه لم يكن يعرف يعود لأي شاعر، فشعر براحة لأنه تساوى معها في الجهل به.
وأخيراً أتى الدور على الثالث، فسألته: ومن يكون أبيب؟ وبعد شيء من الاستيضاح فهم أنها أرادت القول حبيب، ولكن النطق خانها، فأجابها بأن حبيب هو أبو تمّام، ومرة أخرى أسقط في يد الأستاذة الفرنسية التي تعرف أبا تمام، ولكن لم تكن تعلم أنه هو نفسه حبيب، وهي ليست الوحيدة، فما أكثر من لا يعرفون ذلك، وأنا واحد منهم على كل حال.
حول مضمون بيتي شعر حبيب هذا، اللذين صدّرنا بهما المقال، اختلف المختلفون، فالكثيرون رأوا على خلاف أبي تمام أن الحب هو لآخر من أحببنا لا للأول، وفي هذا قال أحدهما منوعاً على بيتي أبي تمام: «نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ فَلَنْ تَرى/ كَهوىً جَديدٍ أو كَوَجهٍ مُقبِلِ/ عِشقي لمنزلي الذي استحدَثتُهُ/ أما الذي ولّى فَليسِ بِمَنزلي».
وفي تنويع آخر على البيتين قال شاعر ثانٍ: «دَع حُبَّ أوَّلِ مَن كُلِّفتَ بِحُبِهِ/ ما الحبُّ إلا للحَبيبِ الآخِرِ/ ما قَد تَولّى لا إرجاعَ لِطِيبِهِ/ هَل غائِبُ اللذاتِ مِثلُ الحاضرِ؟».
فيما رأى ثالث أن الحب ابن ساعته: «الحُبُّ للمَحبوبِ ساعةَ حُبِّهِ/ ما الحبّ فيه لآخِرٍ ولأوَّلِ»، أما الرابع فكان في حيرةٍ من أمره: «قَلبي رَهينٌ بالهوى المُقتَبِل/ فالوَيلُ لي في الحبِّ إنْ لَم أعدل/ أنا مُبتَلىً بِبَليتينِ مِن الهوى/ شَوقٌ إلى الثاني وذِكرُ الأوَّل».
لكن كون اسم أبي تمام «حبيباً»، على نحو ما رأينا، يضعنا كليطو أمام سؤال جدير بالتفكر: ألا يكون الشاعر لا يعني بالحبيب الأول سوى «حبيب»، أي الطفل الذي كانه، والمنزل الأول هو البيت الذي نشأ فيه، وأن الأمر لا يعدو كونه حنيناً نرجسياً للنفس الطفلة للشاعر، التي نأى عنها ونأى عن المنزل الأول الذي ضمّها.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى