مقالات عامة

الحرب الباردة لم تضع أوزارها

محمود الريماوي

يحذر مسؤولون في الشرق والغرب من حرب باردة جديدة تشمل كوكبنا، بعد انتهاء تلك الحرب التي دامت لأكثر من أربعة عقود بين الاتحاد السوفييتي السابق، والدول التي كانت منضوية في المنظومة الاشتراكية، وبين الولايات المتحدة والمعسكر الرأسمالي والدول الحليفة لواشنطن. وفي واقع الأمر فإن هذه التحذيرات تتفادى الإقرار بأن الصراع ما زال قائماً بين الأقطاب ولكن بأدوات جديدة، وبذخيرة إيديولوجية مختلفة عن تلك التي سادت في النصف الثاني حتى بداية التسعينات من القرن الماضي. ولا يكتم المسؤولون الأمريكيون عقيدة إدارتهم الأمنية التي تضع كلاً من روسيا والصين في موضع الخصم. فيما تنبني استراتيجية موسكو وبكين على تطويق النفوذ الأمريكي حيثما وجد. والأزمة النووية لكوريا الشمالية تمثل أحد الشواهد على استمرار الصراع. فالعاصمتان تناوئان التسلح النووي لبيونج يانج، لكنهما تقفان ضد التهديدات الأمريكية لهذا البلد، بل توحي العاصمتان أنهما ستقفان إلى جانب بيونج يانج في حال تعرضها لخطر من واشنطن. بينما تمثل سلسلة العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا امتداداً لسياسة تطويق «الخطر الأحمر» الغابر. إذ يشكل استمرار حلف الناتو بعد طي صفحة حلف وارسو، وكذلك سياسة الدرع الصاروخي( نصب أنظمة صواريخ متطورة في دول أوروبية) استمراراً لسياسة المواجهة التي اتسمت بها الحرب الباردة السابقة.
والجديد حقاً هو طرح النزاع الإيديولوجي جانباً، فلم تعد روسيا تحمل رسالة اشتراكية، والصين بدورها باتت تبحث عن أسواق جديدة لصناعاتها الاستهلاكية الهائلة، من دون أن تلقي بالاً للشعوب المضطهدة أو المتضررة من النفوذ الأمريكي والغربي عموماً، وتحتفظ بحزب شيوعي حاكم يضم في صفوفه رأسماليين ورجال دين، هو أقرب ما يكون لحزب قومي، أو حزب الدولة الحاكم الذي ينظم الحياة في الداخل الصيني، لكنه لا ينسج علاقات تذكر مع أحزاب مماثلة في العالم كما كان عليه الحال في الماضي. وبهذا فقد تحول الصراع الذي يتخذ طابع التنافس الضاري بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى، إلى صراع ذي ملامح قومية وبنزعة إمبراطورية.
وبينما كانت الشعوب إبّان الحرب الباردة السابقة تستفيد من النموذج الاشتراكي لبناء بلدانها، بدعم من الاتحاد السوفييتي السابق، وفيما كانت شعوب أخرى تستفيد من النموذج الغربي للولوج إلى الديمقراطية وسيادة القانون، فقد تغير الوضع الآن بصورة شبه كلية، فالمراكز الدولية الرئيسية تتسم بنزعة براجماتية خالصة، ما يجعل الصراع بينها قائماً على المصالح أولاً وعاشراً، لا على التنافس العقائدي. والشعوب المضطهدة في ضوء تغير وجهة الصراع الدولي وتبدل مضامينه ورؤاه.. تدفع الثمن وحدها، من فلسطين إلى كوريا الشمالية إلى سوريا وأوكرانيا وحتى لاجئي الروهينجا في بورما. بينما كانت الشعوب تستفيد بصورة أو بأخرى من الصراع العقائدي في الماضي لإنجاز مهامها التحررية أو التنموية على السواء، حيث كان يتم استمالة هذا البلد أو ذاك لتحقيق أهدافه وفقاً للنموذج الشرقي أو الغربي، وعبر علاقات وثيقة مع أحد المعسكرين .
الوضع بات يتعدى مجرد التحذير من حرب باردة جديدة، فهذه الحرب ما زالت قائمة ومستمرة بالفعل، وكل ما في الأمر أن الطرفين الفاعلين قد تخلى كل منهما عن رسالته العقائدية، وعن بث الرسائل إلى شعوب المعمورة، وبات الصراع يحمل طابعاً قومياً، وهو ما تعبّر عنه على سبيل المثال الرؤى الروسية المعلنة التي تتحدث عن استعادة أمجاد الماضي الغابر، السابق حتى على نشوء الاتحاد السوفييتي، فيما يستمر الطموح الصيني في آسيا والمحيطات وعلى أسواق العالم، بما يجعله أقرب ما يكون إلى صراع إمبراطوريات على قيد التشكل، وللأسف فإن هامش المناورة أمام الشعوب أو الدول النامية بات ضيقاً، فلا أحد يتقدم لإنقاذ شعب مهدد بالإبادة هنا وهناك.

mdrimawi@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى