الحرب الروسية «السعيدة» في سوريا
عاصم عبد الخالق
منذ فجر التاريخ استغل الإنسان الحرب لاستخدام وتجريب وتطوير أسلحته. وبفضلها حقق نتائج باهرة غيّرت وجه الحضارة ومسيرة التاريخ في أحيان كثيرة. أحد أشهر وأقدم الأمثلة على ذلك، ما قدمه الهكسوس عندما باغتوا المصريين القدماء بالعجلات الحربية؛ تلك العربات الصغيرة التي تجرها الجياد المندفعة بقوة.
وبفضل هذا السلاح الجديد والمتطور احتلوا مصر. لم يصمد الفراعنة أمام ذلك التطور المذهل في فن الحرب، ولم يستطيعوا تحرير بلدهم إلا عندما نجحوا في صناعة نفس السلاح.
بعد آلاف السنين حقق الأمريكيون نتيجة مماثلة بسلاح جديد آخر أكثر فتكاً، وهو القنبلة الذرية. وبعد أن ألقوا اثنتين منها على رؤوس اليابانيين استسلمت قيادتهم، وانتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء. لن نمضي طويلاً في الحديث عن تاريخ البشر مع السلاح، ولكن نكتفي بتسجيل الدرس المستفاد، وهو أن الحرب كانت دائماً فرصة لاستخدام الأسلحة الجديدة، كما أن الرغبة في استخدام هذه الأسلحة كانت وما زالت دافعاً لشن الحرب. وبنفس القدر، كان امتلاك السلاح المتطور والفريد مشجعاً على العدوان.
التاريخ القديم والمعاصر يثبت ذلك. والولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الأولى في وقتنا، لم تشذ قط عن هذا العرف التاريخي المؤلم. كانت وما زالت تجعل من ساحات حروبها حقلاً لتجارب أسلحتها الجديدة. تشهد على ذلك فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وغيرها. روسيا أيضاً لم تكن استثناء، اقترفت نفس الشيء في الشيشان، وأفغانستان، وجورجيا، وأخيراً سوريا.
ولا تنكر موسكو أنها تستفيد من الحرب في سوريا لتجربة أسلحة جديدة، وتطوير أخرى، ومن ثم الترويج لصناعتها العسكرية. وفي فبراير الماضي، أعلن فلاديمير شامانوف رئيس لجنة الدفاع في الدوما (البرلمان) بفخر، أن بلاده أظهرت للعالم فعالية مجمعها الصناعي العسكري، من خلال اختبار أكثر من 200 سلاح جديد في سوريا، مما أسهم في زيادة المبيعات على حد قوله.
وبين وقت وآخر تنشر وسائل الإعلام الروسية تصريحات لمسؤولين عسكريين عن الأسلحة الجديدة المطورة، التي يستخدمها الجيش في سوريا، ومنها على سبيل المثال المقاتلة متعددة المهام «سو 35»، التي دخلت الخدمة في 2015. والصاروخ كاليبر، والقاذفة الاستراتيجية «تو160» المعروفة باسم «البجعة البيضاء»، وبمقدورها قطع مسافة 14 ألف كيلومتر دون التزود بالوقود. هناك كذلك، الصاروخ «توك 1»، المعروف باسم «لهيب الشمس»، وغير ذلك كثير.
ولا غرابة بعد ذلك أن يشعر المجمع الصناعي العسكري والقيادة العليا للجيش في روسيا بالسعادة الغامرة والامتنان لهذه الحرب، التي أتاحت لهم فرصة ذهبية لتطوير وتجربة وبيع الأسلحة؛ لذلك أطلق أحد الباحثين الأمريكيين عليها اسم «الحرب السعيدة»؛ أي الحرب السعيدة لروسيا في سوريا.
والباحث هو مايكل كوفمان، وهو عالم متخصص في التحليل الاستراتيجي بمركز تحليلات البحرية الأمريكية، والوصف استخدمه خلال حلقة نقاشية نظمتها مجلة «ناشيونال إنترست».
ومن وجهة نظره، فإن هذه الحرب تحقق لروسيا جملة من المكاسب العسكرية على صعيد تطوير وتجريب الأسلحة والدعاية لها، وتطوير تكتيكاتها الحربية المتقادمة نسبياً، بفعل عدم خوض جيشها حروباً خارجية حديثة. ووفقاً لما يقول، فإن حجم التطور التكتيكي للقوات الروسية يتضح بجلاء عند مقارنة أدائها الآن في سوريا، بما كان عليه في جورجيا 2008.
يوضح كوفمان أن مالا يقل عن ثلثي الوحدات التكتيكية الجوية لروسيا، تناوبت على العمل في سوريا منذ التدخل العسكري في سبتمبر 2015. وخلال هذه الفترة حصل القادة الكبار والميدانيون والجنود على دروس وخبرات قيمة، من مشاركتهم في العمليات.
أوجه القصور العسكري التي كشفتها الحرب، هي أيضاً أحد أكبر مكاسب الجيش الروسي الذي وضع يده على نقاط خلل وضعف مهمة مثل الحاجة لزيادة فاعلية الذخائر، ودقة تصويب المدفعية، والاهتمام بتحسين إدارة العمليات المشتركة للقوات.
لكل هذا يحب العسكريون الروس سوريا، ولا يريدون مغادرتها. وهم في كل الأحوال لن يغادروها. ولا عزاء لبلادنا التي ستظل حقل تجارب لأسلحة الشرق والغرب.
assemka15@gmail.com