مقالات عامة

الحركات الاجتماعية والهاجس البيئي

د. إدريس لكريني

ثمة قناعة راسخة في عالم اليوم بأن تحقيق التنمية والرفاه للأجيال الحالية والمقبلة، لا يمكن أن يتأتى دون أخذ بعين الاعتبار لمتطلبات المحافظة على البيئة التي توفر كل مقومات الحياة من ماء وهواء وطاقة.. للإنسان ومختلف الكائنات الحية.
على امتداد عقود مضت، حذرت الكثير من التقارير العلمية من حجم التلوث الذي يطول البيئة بمكوناتها المختلفة، غير أن هواجس الحرب الباردة بإشكالاتها العسكرية والإيديولوجية والسياسية والاقتصادية.. حالت دون إيلاء الاهتمام اللازم بهذا الملف الحيوي، ما جعله لا يحظى بأولوية صانعي القرار على المستويين الوطني والدولي.
غير أن سقوط جدار برلين رمز هذه الحرب، وما تلاه من متغيرات دولية متسارعة، أخرج قضايا البيئة من دهاليز مختبرات العلم، إلى أروقة السياسة، وتزايد بذلك الاهتمام الدولي بقضايا البيئة مع بداية التسعينات من القرن المنصرم؛ حيث انعقد مؤتمر «ريو دي جانيرو» في الفترة الممتدة ما بين 3 و 14 يونيو عام 1992، تميز بحضور دولي وشعبي مكثف ووازن (40 ألف شخص، و1200 منظمة دولية غير حكومية، و178 دولة، و130 رئيس دولة)، وتمخضت عنه مجموعة من التوصيات والتدابير التي حاولت التوفيق بين تحقيق التنمية من جهة وحماية البيئة من جهة أخرى.
وفي سنة 2002 انعقد مؤتمر «جوهانسبورج» بجنوب إفريقيا؛ وشكل محطة مهمة لتقييم حصيلة الجهود الدولية المبذولة في هذا الصدد؛ ومناسبة لدق ناقوس الخطر إزاء العديد من القضايا البيئية، كتراجع المخزون السمكي، وتمدد التصحر؛ والتغيرات المناخية؛ وتأثر التنوع البيولوجي.. وتم الاتفاق على اتخاذ مجموعة من التدابير لحماية البيئة في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين، وتلا ذلك عقد عدد من اللقاءات والاتفاقات المهمة.
أضحى المكون البيئي عنصراً أساسياً ومحورياً ضمن مكونات السلم والأمن الدوليين في بعده الشمولي، بالنظر إلى المخاطر التي يطرحها تلوث البيئة الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية، وهو ما تبرزه التغيرات المناخية الملحوظة التي أصبح يشهدها العالم في السنوات الأخيرة والتي تسببت في كوارث طبيعية مختلفة.
تبرز التقارير العلمية إلى أن ما يناهز 50 في المائة من أنهار العالم أصبحت ملوثة بمواد صناعية وكيميائية سامة، فيما تعرضت غابات العالم للدمار، وفقدت معظم الأراضي الزراعية خصوبتها، وازداد زحف الرمال بشكل مخيف، وارتفعت درجة حرارة الأرض بشكل ملحوظ، ووقعت العديد من الأعاصير والفيضانات، والتي يعزوها العلماء إلى تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري التي تسهم في توسع ثقب طبقة الأوزون، فيما تؤكد الدراسات الأكاديمية أيضاً إلى أن أكثر من نصف سكان العالم سيعانون من نقص خطير في المياه في غضون العقدين المقبلين.
وهناك توقعات تفيد بأن المناخ العالمي مرشح للارتفاع في السنوات القادمة، إذا لم تتخذ الإجراءات والتدابير الدولية الكفيلة بالحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وعقلنة استغلال الغابات واعتماد الاحتياطات الكفيلة باحترام البيئة في الصناعات؛ ومساعدة الدول الضعيفة في التغلب على مختلف المشاكل المطروحة في هذا الصدد.
راكم المجتمع الدولي مجموعة من المكتسبات التي تجسد في مجملها الرغبة في تجاوز مختلف الإشكالات والتحديات التي تواجه الأمن البيئي العالمي، سواء على مستوى السياسات العامة الداخلية، أو في إطار التعاون الدولي، غير أن الممارسة الدولية أبرزت أن هذه الجهود وعلى أهميتها، تظل دون النتائج المطلوبة، بفعل عدم انضباط العديد من الدول وعدم تنفيذ التزاماتها الدولية في هذا الخصوص، وهو ما أفرز حالة من الاستياء في أوساط عدد من الفعاليات المدنية على امتداد مناطق مختلفة من العالم، دفعها إلى المرافعة بشأن بلورة جهود وسياسات أكثر نجاعة وفعالية لحماية الأمن البيئي، وتشكّل الحركات الاجتماعية إحدى أهم هذه الفعاليات التي أصبحت تقوم اليوم بأدوار مهمة في هذا الخصوص على المستويين الداخلي والدولي..
مازال مفهوم هذه الحركات يكتنفه الالتباس، بالنظر إلى حداثته وتباين المقاربات الواردة في هذا الصدد، وهي تحيل عموماً إلى مجموعة من الأفراد المنتظمين في إطار غير رسمي يتقاسمون مجموعة من الأفكار المتصلة بإحداث تغيير اجتماعي أو سياسي بشكل واعٍ عبر إقامة شبكات وتحالفات وأشكال نضالية وتأثيرية مختلفة تتدرج من السلمية إلى الضغط أحياناً..
وهي تظل من حيث قوتها وحضورها وأدائها رهينة البيئة الاجتماعية والسياسية والقانونية التي تحيط بها، وتشير التجارب الدولية الرائدة إلى تحول بعض هذه الحركات إلى أحزاب سياسية مؤثرة، كما هو الأمر بالنسبة لحركة «تضامن» في بولونيا..
زاد الاهتمام بالموضوع تحت وقع التطور المذهل الذي شهدته هذه الحركات وبخاصة مع حركة الشباب في فرنسا وأوروبا عام 1968 والتي تجاوزت المطالب الاجتماعية والاقتصادية إلى مطالب سياسية جديدة، قبل أن تمتدّ إلى مختلف المناطق في العالم في كل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية..
وتزايدت أهمية هذه الحركات مع تحولات العولمة وما طرحته من إشكالات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وما أفرزته من فرص على مستوى الالتفات إلى مخاطر وتحديات ظلت صراعات الحرب الباردة تغطي عنها لعقود عديدة، كما هو الأمر بالنسبة لقضايا الإرهاب والفساد والجريمة العابرة للحدود وتلوث البيئة.
وفي هذا السياق، تصاعدت الحركات الاجتماعية البيئية في عدد من الدول المتقدمة (فرنسا والولايات المتحدة..) كسبيل للمرافعة بشأن القضايا البيئية التي طرحت على أجندة السياسات الدولية كأولوية، حيث ساهمت بشكل كبير في التأثير على مسار هذه السياسات..
وفي الوقت الذي مازال فيه حضورها محتشماً في المنطقة العربية، راكمت الحركات الاجتماعية البيئية تجارب مهمة ساهمت في تطورها وتصاعد أدوارها في عدد من الدول الغربية، فيما استطاعت أن تراكم مواقف وتصورات إزاء مجموعة من القضايا المجتمعية كالإرهاب والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوع المجتمعي وعلاقة الدولة بالدين ومكافحة الجرائم الدولية، وهو أمر طبيعي إذا استحضرنا السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي نشأت فيه، وولدت بموجبه ولادة طبيعية..

drisslagrini@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى