الحركات الاحتجاجية في السّياق المغاربي
د. إدريس لكريني
أعادت أجواء «الحراك العربي» التي انطلقت من تونس عام 2011، موضوع الحركات الاحتجاجية إلى واجهة النقاشات العمومية في الأوساط الأكاديمية والسياسية، من حيث أسبابها وأشكالها ومساراتها ومخلفاتها..
فهذه الحركات التي تنطوي على قدر من التنظيم والامتداد الجماهيري والمطالب الاجتماعية والسياسية، تعبّر في مجملها عن قدر من الاستياء إزاء السياسات العمومية في مختلف المجالات، وعن الرغبة في تغيير الأوضاع وتحسينها، وهي غالباً ما تسائل فاعلية ونجاعة القنوات التقليدية من أحزاب ونقابات وهيئات مدنية على مستوى المرافعة والتأطير وتمثيل المواطن ومصالحه..
تعددّت التوصيفات التي أطلقت على التحولات المتسارعة والفجائية التي شهدتها المنطقة العربية منذ إسقاط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، بين من اعتبر الأمر مجرّد انتفاضات واحتجاجات اجتماعية، ومن أكد على أن الأمر يرتبط بثورات، فيما ظهرت تسميات أخرى في الأوساط الإعلامية والسياسية، مثلما هو الشأن بالنسبة لما يسمى «الربيع العربي»، الذي يحيل إلى التفاؤل بانعكاسات هذه التحولات والأحداث على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة، كما برز مصطلح الحراك؛ ضمن هذه التوصيفات، كونه يحيل إلى الحركية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية؛ وإلى السّعي لتجاوز حالة الجمود السياسي التي عمّت عدداً من الأقطار العربية لسنوات عديدة.
شكّلت المنطقة المغاربية منطلقاً للحراك، بعد أن تمكّن المحتجون من إسقاط النظام في تونس وليبيا؛ فيما عمدت دول مغاربية أخرى كالمغرب والجزائر إلى إعمال إصلاحات سياسية ودستورية متباينة في مضمونها وأهميتها.
وفي هذا السياق، شاركت أخيراً، في مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق بمدينة سلا المغربية، في موضوع الحركات الاحتجاجية في ظل الربيع العربي وفرص الانتقال الديمقراطي: حالتا المغرب وتونس.
وينطوي موضوع الأطروحة على قدر كبير من الأهمية بالنظر إلى قلّة الكتابات الأكاديمية التي رصدت احتجاجات الحركتين في إطار مقارن، كما أنها تأتي (الأطروحة) بعد مرور أكثر من ستّ سنوات على اندلاع الحراك، بما سمح بتقييم حصيلة الحركتين، وتقديم مساهمة علمية رصينة تتعلق بهذه الاحتجاجات وآثارها، على عكس بعض المقاربات التي جاءت مواكبة ومبكّرة، ولم تخل من تسرع وحماسة.
حاول الباحث من خلال هذه الأطروحة رصد السياق النظري للحركات الاحتجاجية وتطورها على ضوء عدد من التجارب المقارنة وتأثيراتها على الانتقال الديمقراطي، كما عمل على تسليط الضوء على الحراك السلمي لحركة 20 فبراير وسياقاته ضمن ما يعرف بالتغيير في إطار الاستمرارية، ورصد تطور حركة 14 يناير بتونس من حيث سياقاتها وأهميتها وتداعياتها.
قام الباحث بتأصيل نظري مفاهيمي مهم للحركات الاحتجاجية، وحاول تناول ظاهرة الاحتجاج في سياق «الحراك العربي» بكل من المغرب وتونس والمقارنة بين التجربتين؛ وطرح مجموعة من الخلاصات المهمة في هذا السياق، وإن كان هناك قدر من الالتباس والقصور فيما يتعلق بربط الموضوع بمفهوم الانتقال الديمقراطي الذي طرحه الباحث في بداية الأطروحة.
وقد خلصت هذه الأخيرة إلى أن اندلاع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية التي سعت إلى إحداث تغيير سياسي ديمقراطي، من خلال حركة 20 فبراير بالمغرب وحركة 14 يناير 2011 بتونس، كشف عن ضعف وعجز في أداء الأحزاب السياسية والنخب التقليدية بالبلدين، وأبرز ضرورة خلق قدر من التوازن في موازين القوى، بصورة أعادت موضوع الإصلاح والتحول الديمقراطي إلى الواجهة، عبر الاستجابة لعدد من مطالب المحتجين.
ركز الباحث ضمن فرضياته الأساسية على أن مسار هذه الحركات يظلّ رهيناً بمدى استجابة النظام السياسي للمطالب المطروحة، فكلما تمت الاستجابة إلى هذه الأخيرة أو لجزء مهم منها، خمدت وتراجعت هذه الحركات، وكلّما كان هناك تأخر أو رفض لهذه المطالب، تصاعدت حدتها وتطوّرت مطالبها إلى حدّ الثورات والانقلابات.
ميّز الباحث بين الحركتين، انطلاقاً من اعتبارات عدّة، سواء على مستوى سياقهما السياسي والتاريخي، على اعتبار أن موضوع الإصلاح وحدّة نقاشاته وكذلك الاحتجاج السلمي ليس جديداً بالمغرب الذي راكم مجموعة من المبادرات قبيل الحراك؛ وهو ما تجسده تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، ووصول المعارضة إلى الحكومة في عهد عبد الرحمان اليوسفي في أواخر التسعينات من القرن الماضي، بالمقارنة مع التجربة التونسية التي تميزت بقدر من السلطوية والهيمنة.
وكذلك على مستوى تعاطي نظامي الحكم مع الحركتين، ففي الحالة التونسية، لم يكن هناك تجاوب مع مطالب المحتجين، بل تم التعامل مع هذه الاحتجاجات بقدر واضح من القوة، ما أخرج الأمور عن نطاق التحكّم، وتطورت الأمور واتسعت معه دائرة الاحتجاجات، بينما تعاملت السلطات المغربية مع احتجاجات حركة 20 فبراير بقدر من التعقّل والتجاوب، وجاء خطاب العاهل المغربي في التاسع من شهر مارس من عام 2011 ليطرح مجموعة من الإصلاحات الدستورية والسياسية التي كان لها الأثر في تراجع حدّة هذه الاحتجاجات بصورة تدريجية.
علاوة على الاختلاف القائم بين مكونات الحركة التي تميزت بقدر من التباين والتناقض في توجهاتها ومرجعياتها (يسار وإسلاميين) في الحالة المغربية، عكس التجربة التونسية التي طغى على مكوناتها ومطالبها قدر من التوافق والتناغم..
وخلص الباحث إلى أن تجربة المغرب أبرزت قدرة النظام السياسي على كبح تطور الحركة من خلال إصلاح الدستور وتنظيم انتخابات تشريعية حملت حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية لقيادة الحكومة..
فيما تبقى عملية الانتقال الديمقراطي في الحالة التونسية محصورة في إنجاح مسار الانتقال السياسي من خلال وضع الأسس الدستورية والمؤسساتية، بصورة تجعل من التجربة إحدى المحطات المشرقة بين دول الحراك التي دخلت مجملها في متاهات من الصراع والعنف، غير أن الأمر بتحدياته ومخاطره يقتضي التعامل مع المرحلة الراهنة بقدر من التعقّل والتّوافق.
drisslagrini@yahoo.fr