الحنين امرأة
يوسف أبولوز
إلى أين يأخذك الحنين ؟؟
سؤال رومانسي في زمن واقعي جداً، إن لم يكن سؤالاً ترفياً في نظر الكثيرين في زمن الحروب والبرد الذي يقص الحديد.
.. ولكنه الحنين. الطاقة النفسية المتوهجة، عادة، في الشتاء حيث المطر الخفيف يطرق النوافذ مثل ضيف خجول.
الشتاء فصل أنوثة الحياة. والمطر هدية السماء، والذكريات مثل الماء، تروي العطش، وتنعش خريف الإنسان، وتعيده إلى صباه، وبين الصبا والشباب فاصلة زمنية قصيرة مثل عمر الوردة.
كان محمود درويش يحن إلى قهوة أمه في قريته الكرملية حتى وهو يشرب القهوة في القاهرة أو باريس أو بيروت، وكان بدر شاكر السيّاب يحن إلى نهر بويب في العراق وهو يتمدد على سرير المرض في الكويت، وكان الطريق الزراعي في قلب حسب الشيخ جعفر أجمل من كل الثلج الملائكي فوق أشجار موسكو، وكان الشريف الرضي يقول «وتلفتت عيني ومذ خفيت عني الطلول تلفت القلب..».
القلب بيت الحنين، وفي الشتاء عرس المطر، تكبر الذكريات، وأجمل الذكريات وهي حطب الحنين تلك الموصولة بمكان أو زمان أو إنسان.
تكثف كل حنين غسان كنفاني في مدينة حيفا أو إلى مدينة حيفا، والزمن الواقعي والرمزي بالنسبة لشعراء الفردوس المفقود هو الزمن الأندلسي، حتى أصبحت الأندلس أكبر من الأندلس.. أندلس أهل قرطبة وقصور الحمراء، أندلس الهنود الحمر، أندلس الفلسطيني، أندلس القوقازي، أندلس ابن عربي في ترحالاته حتى دمشق وموته في دمشق، أندلس المتنبي في خروجه من مصر. أندلس أبي فراس الحمداني.. وإلى آخره من أندلسيات.. والكمنجات تبكي على الأندلس كما جملة محمود درويش.
* إلى أن يأخذك الحنين؟
* إلى الإنسان.
في مذكرات مخطوطة يتحدث شاعر ريفي عن حنينه إلى جدته أو إلى صورة جدته، التي كانت تدبغ جلود الذبائح بعد العيد بماء الرمان وجلد الرمان، وهي تدعك وتدعك الجلد بيديها الصغيرتين القرويتين؛ لتحوّل جلد الذبيحة إلى ما يشبه القماش الأحمر اللين.
إلى المرأة التي كانت تغزل خيوط الصوف بالمغزل ذي المروحيات الخشبية الثلاث، فتحوّله إلى سجاد ملون طويل يجلس عليه الضيف، ويشرب قهوته بكرم وسماحة. إلى الرجل الذي كان يشد على خصره حزام الجلد، ويحصد تحت شمس الظهيرة، ويصلي وحده في البرية المزروعة بالتين وقصائد العنب.
إلى الإنسان يأخذك الحنين قبل الزمن وقبل المكان، وإذا أردت فإن أكثر ما كتبه نجيب محفوظ هو حنين إلى القاهرة مع أنه لم يغادر القاهرة، وأكثر قصص تشيخوف حنين إلى بطرسبورغ، وحنين الجواهري إلى بغداد.. الإنسان في بغداد قد يعادله حنين رسول حمزاتوف إلى داغستان، الإنسان في داغستان هو الذي قليلاً ما خرج من بلاد الجبال.
إلى أين يأخذك الحنين في الشتاء؟؟.. فصل الماء والذكريات واللين والخفة والشكر والضحك والتفاؤل.. هل يأخذك إلى وطن أم إلى زمن أم إلى امرأة أم صديق أم عابر طريق.
يأخذك إلى امرأة في شكل وطن، أو إلى وطن في شكل امرأة..
.. الحنين.. امرأة.. إلى امرأة.