قضايا ودراسات

الخطيئة المؤسسة للفتن الطائفية

عبدالله السناوي

ما حدث في «دمشاو هاشم»، القرية شبه المجهولة في محافظة المنيا، من أعمال عنف واعتداء على أقباطها ترويعاً لآمنين يؤدون صلواتهم وحرقاً لبيوت ونهباً لممتلكات، يستدعي الحزم في المواجهة، وإنفاذ القانون على المتورطين في تلك الجرائم، التي تحض على الكراهية وتسمم البيئة العامة على نحو ينزع عن المجتمع سلامته وأمنه.
إذا تقوضت حقوق المواطنة وغيّب القانون؛ فإن الفتن سوف تتمدد بأخطارها من وقت لآخر، وأحياناً لأوهى الأسباب.
هذه أصول دستورية وإنسانية، تضمن سلامة السبيكة الوطنية في مواجهة أي أزمات وعواصف. مع ذلك يصعب الادعاء أن إنفاذ القانون وحده يضع حداً للفتن الطائفية ويمنع تكرارها. بذات القدر، يصعب الادعاء أن المسألة كلها أمنية، أيّاً كانت التحفظات والتساؤلات التي تتردد عند كل فتنة بشأن أداء مؤسسات الدولة.
إذا ما أردنا أن نضع الأمور في نصابها، فإن إنفاذ القانون مدخل رئيسي، لكنه ليس المدخل الوحيد، وتحسين أداء مؤسسات الدولة مدخل آخر، لكنه لا يلخص الملف المحتقن وتعقيداته.
صلب أيّ مواجهة هو إصلاح البيئة العامة وفتح شرايين المجتمع، وهذه مسألة سياسات عامة تضمن الحق في التنفس السياسي والحق في العمل والثروة الوطنية وتكافؤ الفرص. اليائسون والمحبطون هم وقود أي فتن طائفية.
أهم ما تحتاجه مصر، أن تتعرف بأكبر قدر من المكاشفة على مواطن الفتن، أسبابها وجذورها والخطايا التي أسست لها.
كانت الخطيئة الكبرى استخدام ورقتها واللعب بنيرانها لأسباب سياسية.
في يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) داهمت الفتنة الطائفية مصر لأول مرة منذ عقود طويلة. بدت أحداث «الخانكة» بتوقيتها وملابساتها صدمة هائلة هزت المجتمع المصري.
كانت مقاليد السلطة استتبت ل«أنور السادات» بعد إزاحة منافسيه عليها والزج بهم في السجون بعد أحداث مايو (1971).
ينسب لتجربة «جمال عبدالناصر» أنها ضربت الأساس الاجتماعي للنخبة القبطية وجردتها من أراضٍ وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية. هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الديني.
بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيم المواطنة، تأكد التماسك الوطني وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة.
ما الذي استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته في النظر إلى حقوق المواطنة والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟.
تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلي، أو تفجيره بالفتن، قبل أي مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل. أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه.
بدأ التفكير مبكراً، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، في استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصري والماركسي.
جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» من الخارج والتصالح معها.
برز في الحلقة الرئاسية المقربة «محمد عثمان إسماعيل» محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: «أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط».
أفضت اللعبة بنتائجها وتداعياتها لاغتيال الرئيس وشيوع الإرهاب في الصعيد سنوات الثمانينات والتسعينات.
لم تكن قد أخذت عند وقوع فتنة «الخانكة» كامل أبعادها مثل إعلان «السادات» أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، لكنها وفرت بيئة سلبية احتضنت الفتنة وذكّت نيرانها، التي داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.
شكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق ترأسها الفقيه القانوني الدكتور «جمال العطيفي»، انتهت بعد عشرين يوماً إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولاً عاماً، لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد.
تمددت الفتن واشتعلت النيران في «سمالوط» و«أبو زعبل» (١٩٧٨) و«الزاوية الحمراء» (١٩٨١) و«شبرا» و«الزيتون» و«إمبابة» (١٩٩١) و«الكشح» (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا في (2013) إلى موجة اعتداءات بالسلاح على الكنائس المصرية بهدف إضفاء طابع ديني على الصراع السياسي الذي أفضى إلى إخراج جماعة «الإخوان المسلمين» من الحكم.
بصور أخرى ولأسباب مختلفة جرت بعد ذلك فتن طائفية في محافظات «المنيا» و«بني سويف» و«أسوان» وغيرها حتى داهمتنا مؤخراً أحداث «دمشاو هاشم».
«في مصر فتنة طائفية»..كانت تلك جملة قاطعة بدأ الأستاذ «أحمد بهاء الدين» في مارس (١٩٨٧) سلسلة أعمدة يومية استغرقت أسبوعاً عن فتنة كادت تبدد السلام النفسي قبل الاجتماعي، وتذهب بالعقل إلى ما يتجاوز الجنون.
في تلك الأيام انشغلت مصر بقصص وشائعات عن «القماش الذي يظهر الماء عليه رسم الصليب والكف، التي إذا صافحتك طبعت على يدك رسم الصليب»..«كنت ارتعد لسريان هذه الخرافات وما يترتب عليها من حقائق نفسية وعقلية ومادية مرعبة».
التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، و«له ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور وكل المجتمعات، فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه».
المعنى أن التعاسة الاجتماعية، كما العجز الوطني، من محركات الفتن، فضلًا على إحباط الشباب الذي يعاني سوء التعليم والبطالة، والأفق مسدود أمامه، والدور السلبي الذي يلعبه الإعلام أحياناً والجهالات التي تُنسب إلى الدين ظلمًا. «هذه بذور التعصب التي يأتي من يصب عليها الزيت فتتحول إلى نار».
هكذا كتب الأستاذ «بهاء» قبل أكثر من ثلاثة عقود دون أن نتخلص من إرث الخطيئة المؤسسة للفتن الطائفية.

زر الذهاب إلى الأعلى